أثارتها قضية أخرى كانت قد دونت في مدرجة ملحقة برسالة ابن الحوات، وهذه القضية هي: هل يتم إيمان المرء دون استدلال ذلك أن ابن الحوات مثل ابن حزم ينكر التقليد، ومن أنكر التقليد توصل بسهولة إلى القول بان العقل الإنساني قادر على معرفة الله، خصوماً وان الآيات التي تحض على استعمال النظر كثيرة، وخصوماً وان ابن حزم نفسه - كما رأينا في رسالة سابقة - يستعمل الاستدلال طريقاً للإيمان.
وجواب ابن حزم عن هذه القضية واضح صريح: نعم إنه يعرف علم الكلام وطرائق أهله في الاستدلال، فهو لا يجهل ذلك ولا يمكن أن يتهم بأنه يعادي شيئاً لجهله به. وأنه يستعمل الاستدلال ويحسن استعماله حين يشاء ولكنه لا يراه فرضاً على الناس. بل المفروض على الناس الائتمار لما جاء به الوحي، والآيات الواردة في القرآن حضت على النظر، وثمة فرق شاسع بين الحض والأمر.
وهو ينكر التقليد وينهى عنه، ولكن لو أن إنساناً اهتدى إلى الحق عن طريق التقليد لكان مصيباً في الاهتداء إلى الحق مذموماً في المنهج الذي اختاره؛ فالتقليد مذموم لكن إن أدى إلى باطل فقد أوقع صاحبه في الكفر أو الفسق، وإن أدى إلى حق فقد جاء على صاحبه بالتوفيق، ولكنه لم يبرئه من الذم.
والفرق بينه وبين ابن الحوات أن هذا الثاني يريد أن يعمم رفض التقليد بحيث يتناول أيضاً عدم تقليد الرسول، احتكاماً إلى العقل على طريقة المعتزلة والأشعرية، بينا يرى ابن حزم ان التقليد هو تقليد كل إنسان دون الرسول، فأما الأخذ بما جاء به الرسول فهو ائتمار لا تقليد. كذلك فإن ابن الحوات يرى أن الرسول لا تجب طاعته إلا بعد معرفة الله، فمعرفة الله مقدمة على معرفة رسله، أما ابن حزم فيرى أن العقل الإنساني لم يعط القدرة على ذلك، وأنه لا وجوب لشيء إلا إذا دعا إليه الرسل، ومعرفة الله قد وجبت على الناس بدعاء الرسل لا بقدرة العقل. فالعقل لا يحرم شيئاً ولا يوجبه وإنما فيه معرفة الأشياء على ما هي عليه. العقل قادر على التلقي والتفسير ولكنه لا يوجب حرمة لحم الخنزير أو أن تكون صلاة الظهر أربع ركعات.
كل ما تطلبه الدين من الناس هو الإقرار بدعوة الإسلام وتحقيقها في القلوب، ولكنهم لم يكلفوا المعرفة البرهانية، ومعظم الأمة لا يعرف أن يتهجى كلمة " استدلال " ومع ذلك فغن الواحد فيهم يتحمل العذاب في سبيل دينه، ويستحل دم أبيه إذا كفر.
وبعد هذا الجدل النظري يعود ابن حزم بصديقه إلى الواقع العملي: فيتدرج به في