أي الاحتكام إلى الجانب العقلاني في النظر إلى الأمور الشرعية، ومع ذلك فإن مطالعتها لم تزده إلا تصلباً برفض الرأي والقياس في شؤون الدين والشريعة، وبرفض العلل في تلك الشؤون نفسها، وكل ما أفاده ابن حزم من الاطلاع على المنطق هو أن يستوعب قيام الأحكام الشرعية على أسس منطقية. هو أمر حاوله الغزالي من بعد ولم يتهمه أحد بالإلحاد أو بالانقياد لآراء الدهرية.
- ٤ -
[رسالة التوقيف على شارع النجاة باختصار الطريق]
تصور هذه الرسالة منعطفاً في مشكلة الثقافة بالأندلس، فبعد الثورة التي مثلها ابن عبد ربه ومن جرى مجراه على الثقافة الهيلينية متمثلة في التهكم بمن يقول بكروية الأرض أو بمن يطلب علم النجوم (أو الفلك بوجه عام)(١) أصبح المثقفون ينقسمون في فريقين: فريق يقبل على علوم الأوائل وفريق يعادي هذه العلوم ويقبل على علوم الشريعة، وعلى هذا الأساس وجه السؤال إلى ابن حزم: أين يقع الحق هل هو في صف طلاب الثقافة الهيلينية أو هو في صف طلاب الثقافة الإسلامية
ويبدو أن الذين طرحوا هذا السؤال على ابن حزم دون غيره من الناس إنما كانوا يحاولون الحصول على جواب توفيقي يبعث الاطمئنان في نفوسهم؛ إذ لا ريب في أنهم كانوا يعملون موقفه من علوم الأوائل، وما ناله من خصومه بسبب إقباله على تعلمها. ولكن يبدو أيضاً أن الذين ألقوا عليه ذلك السؤال لم يعرفوا رسالته في مراتب العلوم (وهي رسالة ستكون من مشتملات الجزء التالي) لأنهم لم يطلعوا عليها أو لأنها لم تكن قد كتبت بعد، أو أنهم اطلعوا عليها فلم يقتنعوا بما جاء فيها من مقررات - والفرض الأول أقرب إلى الرجحان - ولها جاءوا يسألونه حول الأفضلية: بين العلوم التي تنسب للأوائل والأخرى التي جاءت متصلة بالنبوة، مؤكدين أنهم يريدون بياناً مختصراً في هذه المسألة، ليكون حاسماً على نحو تقريري واضح، لا يضيع فيه الجواب المحدد في تضاعيف التفصيلات.
واستجابة لهذا المطلب قام ابن حزم بحصر العلوم المنتمية إلى الأوائل في أربعة هي/ الفلسفة وحدود المنطق، علم المساحة، علم الهيئة، علم الطب، ووصفها بأنها
(١) انظر تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: ١٢١ - ١٢٣.