علوم حسنة لأنها حسية برهانية، وأنها نافعة، ولكن منفعتها كلها دنيوية، لأنها تفيد في شؤون متعلقة بواقع الإنسان على هذه الأرض وتحقق له مصلحة في الدنيا، ومن هذا الجانب لا يمكن أن تكون المطلب النهائي للإنسان، إذ لا تستطيع أن تنافس ما جاءت به النبوة؛ ذلك أن ما جاءت به النبوة يحقق ثلاثة أشياء هامة تعجز عنها علوم الأوائل، وهي:
(١) إصلاح الأخلاق النفسية بينما العلوم الهلينية لا تستطيع إلا إصلاح الجسد؛ ومن الواضح أن إصلاح النفوس ومداواتها أهم من إصلاح الأجساد ومداواتها.
(٢) دفع مظالم الناس الذين لم تصلحهم الموعظة وإيقاف التظالم بينهم، أي تنظيم أمور المعاش وإحقاق العدالة بين الناس، وهذا لا تستطيعه العلوم لأنها اجتهاد بشري غير ملزم ولا ينقاد له الناس بالطاعة كما ينقادون لأوامر صادرة من خارج نطاق الاجتهاد الإنساني.
(٣) كفالة النجاة للنفس بعد المرحلة الدنيوية.
وقد يبدو من هذا العرض أن ابن حزم انتصر للعلوم الدينية دون أن ينكر الدور الهام الذي تقوم به علوم الأوائل، ولكن التعمق في دراسة الرسالة يدل على انه استطاع الربط بين الجانبين ربطاً وثيقاتً حين ذهب يثبت ضرورة الاستدلال العقلي البرهاني الذي يعده مدخلاً إلى التدين (١) ؛ فالمؤمن يستطيع عن طريق التمرس بالفكر المنطقي أن يتوصل إلى البت في أمر العالم: هل هو محدث أو لم يزل، والطرق للبرهان على حدوثه متعددة منها تناهي العدد، ومنها ان الزمان ذو مبدأ، وهذا يعني وجود أول وراء العالم، وهذا الأول لا يمكن أن يكون ذا مبدأ، وأن هذا الأول - وهو محدث العالم - هو الذي علم اللغة وأعطى الأشياء مسمياتها؛ فإذا قد صح ذلك حق لنا ان نتساءل: هل مبتدئ العالم واحد أو اكثر من واحد، وإذا فتشنا وجدنا أن الواحد غير موجود في تركيب العالم، لأنه قابل دائماً للانقسام، وإذن لا بد من واحد خارج عن تركيب العالم.
بعد ثبوت حدوث العالم ووجود أول محدث له ينتقل المرء ليتفحص الشرائع بنظر عقلي أيضاً (مستفاد من دراسة علوم الأوائل) فيجد الشرائع من مسيحية ويهودية
(١) هذه هي طريقته الذاتية (في الربط) ولكنه لا يفرضها على الآخرين. كما يتبين من الرسالة التالية حين سئل هل فرض الله النظر؛ أي الاستدلال العقلي فنفى أن يكون النظر مفروضاً (الفقرة: ٩ من الرسالة التالية) .