للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عن تدرج النفس من المادي إلى الروحاني فقالوا: " ثم أعلم أن الغرض الأقصى من وجود العشق في جبلة النفوس ومحبتها الأجساد واستحسانها لها ولزينة الأبدان، واشتياقها إلى المعشوقات المفتنة، كل ذلك إنما هو تنبه لها ومن نوم الغفلة ورقدة الجهالة ورياضة لها وتعريج لها وترقية من الأمور الجرمانية إلى المحاسن الروحانية ودلالة على معرفة جوهرها " (١) ذلك لأن كل المشتهيات في الأجساد رسوم طبعتها فيها النفس الكلية، فإذا تأملتها النفس الجزئية حنت إليها، وأحبتها، فإذا غابت تلك الرسوم بقيت المحبة، لأنها تمثل تشوق النفس الجزئية إلى النفس الكلية، والنفس الكلية تشبه بالباري تعبداً له واشتياقاً ليه، ولذلك كان الله هو المعشوق الأول الذي تشتاق إليه جميع الموجودات ونحوه تقصد لأنه هو الموجود المحض، وله البقاء السرمدي والكمال المؤبد (٢) .

وعلى الرغم من تحول إخوان الصفا إلى نظرة أفلوطونية واضحة، فليس ببعيد إذن أن تكون " المأدبة " مصدراً لكثير من تلك التصورات عن الحب، ولكنها وأشباهها تمثل المصدر الفلسفي، وهو مصدر يقف في موازاته المصدر الطبي؛ فقد كان ابن داود نفسه يعرف أن بعض المتطببين يقول، " العشق طمع يتولد في القلب، وتجتمع إليه مواد من الحرص، فكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدة القلق وكثرة الشهوة، وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء، ومن طغيان السوداء فساد الفكر، ومع فساد الفكر تكون الفدامة ونقصان العقل، ورجاء ما لا يكون وتمني ما لا يتم، حتى يؤدي ذلك إلى الجنون، فحينئذ ربما قتل العاشق نفسه، وربما مات غماً، وربما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً، وربما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنه قد مات فيقبرونه وهو حي، وربما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه


(١) رسائل ٣: ٢٨٢.
(٢) أنظر المصدر نفسه: ٢٨٢ - ٢٨٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>