لا يكاد يدين للزهرة بشيء، أو إن شئت يدين لها بشيء محدود للغاية. لقد تغربت النظرية " وتأسبنت " وفقدت تكلفها الواضح، وتحذلقها الخنث، وما كان يقال في بغداد نثراً رقيقاً أو شعراً ملتقطاً أخذ ابن حزم يقوله في شاطبة دافئاً وإنسانياً عن نفسه وعن أصدقائه في قرطبة، وأتت العاطفة واللهفة، وهما خاصيتان اسبانيتان، على أسوار التقليد التي تحول دون تدفق النبع " (١) . أما أن ما جاء به ابن حزم كان " دافئاً انسانياً " فذلك لا غبار عليه بل هو عين الحقيقة، وأما أن الطوق، " لا يكاد يدين للزهرة بشيء " فذلك هو الدعوى التي لا تثبت للمناقشة، كما سأبين بعد قليل.
وقبل أن أتقدم لإثبات وجهة نظري، علي أن أقرر أن التأثير لا يعني المحاكاة، فابن حزم لا يحاكي في الطوق كتاب الزهرة، فقد قام بتلك المحاكاة ابن فرج في كتاب الحدائق، حتى كاد يتفوق - أو هو تفوق حقاً - على سلفه المشرقي، وكان ابن حزم يدرك هذه المحاكاة، وينفر منها، في آن معاً، لأنه امرؤ لا يؤمن بالتقليد حسبما يمليه عليه اتجاهه الظاهري ولكنه فيما يبدعه لا يستطيع ان ينجو من التأثر، وبين التأثر والتقليد بون شاسع.
٥ - أثر الزهرة في ابن حزم:
ولكن - على كل ما هنالك - كان ابن حزم يرى في ابن داود إماماً ظاهرياً يستحق التقدير، إماماً يكتب في الحب، دون أن يعبأ بنقد المتزمتين، ويستطيع في الوقت نفسه ان يتحول بالحب، رغم العذرية والأفلاطونية والصوفية، إلى مستوى إنساني واقعي، وهذا يعجب ابن حزم كثيراً، ويوافق مشاعره ذات المنزع الظاهري، ومن ثم فإنه لا يستطيع أن يتخلص من تأثير ابن داود، حتى لو حاول ذلك، وهذا التأثير قد يكون إيجابياً وقد يكون سلبياً.
(١) طوق الحمامة ترجمة غومس: ٦٦ - ٦٧ والطاهر مكي: ٢٧٩ - ٢٨٠، ونقله البرنس انظر ايضاً مكي: ١٦٠.