للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ابن حزم أحد وزرائه.

ولا يمثل ابن حزم خروجاً على جمهرة المشاعر الأندلسية في نزعته الأموية، ولكنه كان أحد ألسنتها المعبرة عن " الأكثرية الصامتة "، وموقف ابن حزم ونظرائه ممن شهدوا فترة التحول في مقدرات الأمور وذهبت أفكارهم وأخيلتهم تقيم المقارنات بين ما كان وما صار موقف طبيعي، يحسه من لا تسمح لهم ظروف التحولات الحاسمة بسوى الموازنة والمقارنة، حتى ليبدوا هذا الجنوح إلى الموازنة والمقارنة عاملاً معطلاً في الانتفاع والاستمتاع بمرافق الحاضر الراهن، وقد صور ابن حزم ذلك في صرخة ذاتية أطلقها حين قال: " وإن حنيني إلى كل عهد تقدم ليغصني بالطعام ويشرقني بالماء.... وإني لقتيل الهموم في عداد الأحياء ودفين الأسى بين أهل الدنيا " (١) .

وحين احتجبت الأموية ولم يبق منها إلا الحنين الواله إلى عهودها شحذت إلى درجة الإرهاف مشاعر الحبِّ للأندلس؛ وهو حب يتجلى لدى ابن حزم في إبرازه للفكر الأندلسي ودفاعه عن مآثر بلده، ويتجلى بقوة في رسالته في فضل الأندلس. لا أقول إن تلك عصبية، بل أقول إنها شعبة عميقة من حب الوطن، حين تلوح في الأفق علامات إشرافه على الضياع، وقد كانت العلامة المنبئة بضياعه هي احتجاب الأموية وانفراط عقد الجماعة. وقد نقع في تلك الرسالة - إلى جانب الإحصاءات السريعة للمنجزات الفكرية الأندلسية - على عبارات مثل: " ونحن إذا ذكرنا ابا الأجرب جعونة بن الصمة الكلابي في الشعر لم نباه به إلا جريراً والفرزدق لكونه في عصرهما، ولو أنصف لاستشهد بشعره، فهو جار على مذهب الأوائل لا على طريقة المحدثين " (٢) ومثل قوله: " ولو لم يكن لنا من فحول الشعراء إلا أحمد بن دراج القسطلي لما تأخر عن شأو بشار بن برد وحبيب والمتنبي..... " (٣) فهذه الأحكام وأمثالها يجب ألا تحملنا على نسبة العصبية لابن حزم، فإنما هي أحكام نقدية تقود على التذوق ويتفاوت فيها الناس؛ وإذا تجاوزنا الأحكام النقدية وجدنا ابن حزم يتحدث عن مآثر بلده دون تزيد، ودون لجوء إلى التعميم. استمع إليه وهو يقول: " وأما العدد والهندسة فلم يقسم لنا في هذا العلم نفاذ ولا تحققنا به، فلسنا نثق بأنفسنا في تمييز المحسن من


(١) طوق الحمامة في الجزء الأول من الرسائل (١٩٨٠) : ١٢٥.
(٢) رسالة في فضل الأندلس، ف: ٢١. ص: ١٨٧.
(٣) المصدر نفسه.

<<  <  ج: ص:  >  >>