للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لما استعير له لفظة الاشتعال، ومن الناس من يدلِّس لونه بصبغة الخضاب، وليس ذلك إلّا حدادًا على فقد الشباب، وهو في فعله هذا كاذب, ولا يخفى أنس الصادق من وحشة الكذاب، وخداع النفس أن تسلو عن بئره المعطَّلة, وقصره المشيد، ويحسن لها الخروج في ثوب مرقَّع, وهي تراه بعين الثوب الجديد. وبعض هذا مأخوذ من شعر ابن الرومي، وهو قوله:

رأيت خضاب المرء بعد مشيبه ... حدادًا على شرخ الشبيبة يلبس١

غير أنَّ في هذا الفصل معاني كثيرة لطيفة لا توجد في كلام آخر.

ومن ذلك قولي في وصف الجود والسخاء, وهذا الفصل يشتمل على معانٍ متعددة، فمنها قولي في العطاء، وهو:

شافهتني أسباب الغنى برؤيته حتى كادت تنطق، واخضرَّت أكنان منزلي بعطائه حتى كادت تورق، ومن فضيلة بره أنه لا يأتي به على أعين الناس، وإذا غرسه عند إنسان رَبَّ ذلك الغراس، فلا يستكثر ما جادت به سحاب يده، ولا يمنعه عطاء يومه عن عطاء غده". وبعض هذا المعنى مأخوذ من شعر أبي نواس:

كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا ... لم يهدموا لبنائهم آساسا٢

ومن هذا المعنى أيضًا قولي:

"وهو أخذ المكارم من سمائها وأرضها، وقام بنفلها في الناس وفرضها، وتحلَّى ببعض أسماء الشهور حتى أصبح بعضها حاسدًا لبعضها, فالمحرم للعائذ بحرمه، وصفر للطامع في سعادة قدمه، وربيع لرائد نواله، ورجب لأقوال عذاله, وهذا مأخوذ من قول الفرزدق:

يداك بدٌ ربيع الناس فيها ... وفي الأخرى الشهور من المحرم

وقد قال الشعراء في ذلك كثيرًا، إلّا أني أنا تصرَّفت في هذا المعنى تصرُّفًا لم يتصرَّف فيه أحد غيري.


١ ديوان ابن الرومي ٣٩٧ ورواية الديوان "رأيت خضاب المرء عند مشيبه".
٢ ديوان أبي نواس ١٣٠ وهو من أبيات يبكي فيها البرامكة، وقد مرَّ بدورهم، فكتبها على حائط منها.

<<  <  ج: ص:  >  >>