[النوع الثالث: في الترصيع]
وهو مأخوذ من ترصيع العقد، وذاك أن يكون في أحد جانبي العقد من اللآلئ مثل ما في الجانب الآخر، وكذلك نجعل هذا في الألفاظ المنثورة من الأسجاع، وهو أن تكون لفظة من ألفاظ الفصل الأول مساويةً لكلِّ لفظة من ألفاظ الفصل الثاني في الوزن والقافية.
وهذا لا يوجد في كتاب الله تعالى، لما هو عليه من زيادة التكلف.
فأمَّا قول من ذهب إلى أنَّ في كتاب الله تعالى منه شيئًا, ومثله بقوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} ١ فليس الأمر كما وقع له، فإن لفظة "لفي" قد وردت في الفقرتين معًا، وهذا يخالف شرط الترصيع الذي شرطناه، لكنه قريب منه.
وأما الشعر فإني كنت أقول: إنه لا يتَّزن على هذه الشريطة، ولم أجده في أشعار العرب لما فيه من تعمق الصنعة وتعسُّف الكلفة، وإذا جيء به في الشعر لم يكن عليه محض الطلاوة التي تكون إذا جيء به في الكلام المنثور, ثم إنّي عثرت عليه في شعر المحدَثين، ولكنه قليل جدًّا, فمن ذلك قول بعضهم:
فمكارمٌ أوليتها متبرعًا ... وجرائم ألغيتها متورعًا
فـ "مكارم" بإزاء "جرائم", و"أوليتها" بإزاء "ألغيتها", و"متبرعًا" بإزاء "متورعًا".
وقد أجاز بعضهم أن يكون له أحد ألفاظ الفصل الأول مخالفًا لما يقابله من الفصل الثاني, وهذا ليس بشيء لمخالفته حقيقة الترصيع.
فممَّا جاء من هذا النوع منثورًا قول الحريري في مقاماته: "فهو يطبع الأسجاع بجواهر لفظه، ويقرع الأسماع بزواجر وعظه", فإنه جعل ألفاظ الفصل الأول مساوية لألفاظ الفصل الثاني وزنًا وقافية، فجعل "يطبع" بإزاء "يقرع"، و"الأسجاع" بإزاء "الأسماع"، و"جواهر" بإزاء "زواجر"، و"لفظه" بإزاء "وعظه".
ومما جاءني من هذا النوع:
ما ذكرته في جواب كتابٍ إلى بعض الإخوان، وهو:
"قد أعدت الجواب، ولم أستعر له نظمًا مفلقًا، ولا جلبت إليه حسنًا منمَّقًا، بل أخرجته على رسله، وغنيت بصقال حسنه عن صقله، فجاء كما تراه غير ممشوط ولا مخطوط، فهو يرفل في أثواب بذلته، وقد حوى الجمال بجملته، والحسن ما وشته فطرة التصوير، لا ما وحشته فكرة التزوير", والترصيع في قولي "وشته فطرة التصوير", و"حشته فكرة التزوير".
١ سورة الانفطار: الآيتان ١٣، ١٤.