للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تركت أناسًا لم يهشُّوا لمنَّةٍ ... ولم ينقعوا غُلَّ الظماء الخوامس

على القرب فيهم إنَّني غير طامعٍ ... ومنك على بعد المدى غير آيس

ومن هذا الباب أيضًا قولي وهو:

"تركت قومًا يسلون الحبيب، ويملون القريب، ولا يرعون من يرعاهم، ولا يدر اللبن على مرعاهم، فنوالهُم تَحَايَا، وأعراضهم ضَحَايَا، ومن أحسن صفاتهم أنهم يعاقبون على الظنة، ولا يرتاحون لمنَّة، فالذرائع لديهم مدفونة، والصنائع غير مسنونة".

وبعض هذه المعاني مأخوذ من شعر أبي الطيب المتنبي١:

رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يَدِرُّ على مرعاكم اللبن

جزاء كل قريبٍ منكم مللٌ ... وحظ كل محبٍّ منكم ضغن

ومن ذلك ما ذكرته على الحث على الاغتراب، وهو:

"لولا التغرب لما ارتقت بنات الأصداف إلى شرف الأعناق، ولا ارتقى تراب الأحجار إلى نور الأحداق".

وكذلك قولي في هذا المعنى، وهو:

"في الانتقال تنويهٌ لخامل الأقدار، ولولا ذلك لم يكس الهلال حُلَّةَ الأبدار، والمندل الرطب حطب في أوطانه، والمسك دم في سُرَرِ غزلانه، ولولا فراق السهم وتره لم يحظ بفضل الإصابة، ولولا فراق الوشيج٢ منبته لم يتحلَّ بعز السنان ولا شرف الذؤابة".

وهذا الفصل فصل من القول في معناه، ومما لم ينبش للخواطر ابتناء مبناه، فمنه ما هو مأخوذ من الشعر، ومنه ما منح به الخاطر على غير مثال، وهو يشهد لنفسه.


١ ديوان المتنبي ٤/ ٢٣٦ من قصيدته التي مطلعها:
بم التعلل؟ لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن
٢ الوشيج: شجر الرماح.

<<  <  ج: ص:  >  >>