للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنت جردت من الأخبار النبوية كتابًا يشتمل على ثلاثة آلاف خبر, كلها تدخل في الاستعمال، وما زلت أواظب على مطالعته مدة تزيد على عشر سنين, فكنت أنهي مطالعته في كل أسبوع مرة, حتى دار على ناظري وخاطري ما يزيد على خمسمائة مرة، وصار محفوظًا لا يشذّ عنِّي منه شيء, وهذا الذي أوردته ههنا في حلِّ معاني الأخبار هو من هناك.

وسأذكر ما دار بيني وبين بعض علماء الأدب في هذا الأسلوب الذي أنا بصدده ههنا.

وذاك أنه استوعره وأنكره، وقال: هذا لا يتهيأ إلا في الشيء اليسير من الأخبار النبوية.

فقلت: لا، بل يتهيأ في الأكثر منها.

فقال: قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه اختصم إليه في جنين, فقضى على من أسقطه بغرة: عبدٍ أو أمةٍ، فأين يستعمل هذا?

فأفكرت فيما ذكره، ثم أنشأت هذا الفصل من الكلام، وأودعته فيه:

"قد كثر الجهل حتى لا يقال: فلان عالم وفلان جاهل، وضرب المثل بباقل١, وكم في هذه الصورة الممثلة من باقل، ولو عرف كل إنسان قدره لما مشى بدن إلا تحت رأسه, ولا انتصب رأس إلا على بدنه، ولكان صاحب العمامة أحق بعمامته, وصاحب الرسن أحق برسنه، وكنت سمعت بكاتب من الكتاب كلَّمَه إلى غثاثة، وقلمه بغاثة لا يستنسر٢, وأيّ بطش لبغاثة، وإذا وجب الوضوء على غيره بالخارج من السبيلين وجب عليه من سُبُلٍ ثلاثة، هذا وهو يدَّعي أنه في الفصاحة أمة وحده، ومن قس إيادٍ٣ وسحبان وائل٤ عنده, وإذا كشف عن خاطره وجد بليدًا لا يخرج


١ رجل مشهور عندهم بالعي، قالوا: إنه اشترى ظبيًا بأحد عشر درهمًا، فسُئِلَ عن شرائه، ففتح كفيه وأخرج لسانه يشير إلى ثمنه، فانفلت الظبي، وضرب به المثل في العي.
٢ البغاث من الطير: ما لا يصيد ولا يرغب في صيده؛ لأنه لا يؤكل، وهو بطيء الطيران، واستنسر البغاث صار نسرًا، وعليه قولهم: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" أي: إن الضعيف يصير قويًّا بأرضنا.
٣ هو قس بن ساعدة الإيادي، أحد خطباء العرب المشهورين، سمعه النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب في الموسم.
٤ سحبان وائل، مضرب المثل في الخطابة والفصاحة والبيان.

<<  <  ج: ص:  >  >>