ذلك! ولكن الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك الحياة الدنيا".
ومن ذلك ما رواه عبد الله بن سلام، فقال: لما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فجئت في الناس لأنظر إليه, فلما تبيَّنت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب، فكان أوَّل شيء تكلَّم به أن قال: "أيها الناس، أفشوا السلام, وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
فإن قيل: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لبعضهم منكرًا عليه وقد كلَّمه بكلام مسجوع: "أسجعًا كسجع الكهان"؟ ولولا أنَّ السجع مكروه لما أنكره النبي -صلى الله عليه وسلم؟.
فالجواب عن ذلك أنَّا نقول: لو كره النبي -صلى الله عليه وسلم- السجع مطلقًا لقال: أسجعًا؟ ثم سكت، وكان المعنى يدل على إنكار هذا الفعل لم كان، فلمَّا قال: "أسجعًا كسجع الكهان" صار المعنى معلقًا على أمر، وهو إنكار الفعل لم كان على هذا الوجه.
فعلم أنه إنما ذمّ من السجع ما كان مثل سجع الكهان، لا غير, وأنه لم يذمّ السجع على الإطلاق، وقد ورد في القرآن الكريم, وهو -صلى الله عليه وسلم- قد نطق به في كثير من كلامه، حتى إنه غيَّر الكلمة عن وجهها اتباعًا لها بأخواتها من أجل السجع، فقال لابن ابنته -رضي الله عنهما: "أعيذه من الهامة والسامة وكل عينٍ لامة" , وإنما أراد "ملمة"؛ لأن الأصل فيها من "ألمَّ" فهو "ملم".
وكذلك قوله -صلى الله عليه وسلم: "ارجعن مأزوراتٍ غير مأجورات". وإنما أراد "موزورات" من الوزر، فقال: "مأزورات" لمكان "مأجورات"، طلبًا للتوازن والسجع، وهذا مما يدلك على فضيلة السجع.
على أن هذا الحديث النبويّ الذي يتضمَّن إنكار سجع الكهان عندي فيه نظر، فإن الوهم يسبق إلى إنكاره، يقال: فما سجع الكهان الذي يتعلّق الإنكار به, ونهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
والجواب عن ذلك: أن النهي لم يكن عن السجع نفسه، وإنما النهي عن حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع، ألا ترى أنه لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الجنين بغُرَّة عبد