للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد جاءت هذه اللفظة في شعر بعض شعراء الحماسة١ في باب المراثي:

فما أنا من حزنٍ٢ وإن جلَّ جازعٌ ... ولا بسرورٍ بعد موتك فارحٌ

وهذا غير حسن, وإن جاز استعماله.

وعلى نحوٍ منه يقال: "غَضِبَ" وهو "غَضْبَان"، ولا يقال: "غاضب"، وإن كان جائزًا.

وقد تقدَّم القول أنَّا في تأليف الكلام بصدد استعمال الحسن والأحسن، لا بصدد استعمال الجائز وغير الجائز.

ومما يجري هذا المجرى قولنا: "فَعَلَ" و"افتَعَلَ"، فإن لفظة "فَعَلَ" لها موضع تستعمل فيه، ألَا ترى أنك تقول: "قعدت إلى فلان أحدِّثه"، ولا تقول: "اقتعدت إليه"، وكذلك تقول: "اقتعدت غارب الجمل"، ولا تقول: "قعدت على غارب الجمل"، وإن جاز ذلك، لكن الأوّل أحسن.

وهذا لا يحكم فيه غير الذوق السليم، فإنه لا يمكن أن يقام عليه دليل.

وأما "فَعَلَ" "وافعَوْعَل" فإنا نقول: "أعشبَّ المكان"، فإذا كثر عشبه قلنا: "اعشَوْشَبَ"، فلفظة "افعوعل" للتكثير.

على أني استقريت هذه اللفظة في كثير من الألفاظ فوجدتها عذبة طيبة، على تكرار حروفها كقولنا: اخشوشن المكان، واغرورقت العين، واحلولى الطعم، وأشبهها.

وأما "فُعَلَة" نحو: هُمَزَة، وجُثَمَة، ونُوَمَة، ولُكَنَة، ولُحَنَة، وأشباه ذلك, فالغالب على هذه اللفظة أن تكون حسنة.

وهذا أخذته بالاستقراء، وفي اللغة مواضع كثيرة هكذا لا يمكن استقصاؤها.

فانظر إلى ما يفعله اختلاف الصيغة بالألفاظ.

وعليك أن تتفقد أمثال هذه المواضع، لتعلم كيف تضع يدك في استعمالها، فكثيرًا ما يقع فحول الشعراء، والخطباء في مثلها، ومؤلّف الكلام من كاتبٍ وشاعرٍ إذا مرَّت به ألفاظ عرضها على ذوقه الصحيح، فما يجد الحسن منها مجموعًا جمعه، وكذلك يجري الحكم فيما سوى ذلك من الألفاظ.


١ هو أشجع بن عمرو السلمي، والبيت من أبيات أولها:
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ... ولا مغرب إلّا له فيه مادح
٢ رواية الحماسة "١/ ٣٦٢":
فما أنا من رزء وإن جلّ جازع

<<  <  ج: ص:  >  >>