للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تدار علينا الراح في عسجديةٍ ... حبتها بأنواع التصاوير فارس١

قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مهًا ثورتها بالعشي الفوارس٢

فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس٣

وقد أكثر العلماء من وصف هذا المعنى، وقولهم فيه: إنه معنى مبتدع.

ويحكى عن الجاحظ٤ أنه قال: ما زال الشعراء يتناقلون المعنى قديمًا وحديثًا إلا هذا المعنى، فإن أبا نواس انفرد بإبداعه!

ولا أعلم أنا ما أقول لهما٥ ولا بي سوى أن أقول: قد تجاوز بهم حد الإكثار، ومن الأمثال السائر: بدون هذا يباع الحمار!

وفصاحة هذا الشعر عندي هي الموصوفة، لا هذا المعنى، فإنه لا كبير كلفة فيه؛ لأن أبا نواس رأى كأسًا من الذهب ذات تصاوير فحكاها في شعره.

والذي عندي في هذا أنه من المعاني المشاهدة، فإن هذه الخمر لم تحمل إلا ماءً يسيرًا، وكانت تستغرق صور هذا الكأس إلى مكان جيوبها، وكان الماء فيها قليلًا بقدر القلانس التي على رءوسها، وهذا حكاية حال مشاهدة بالبصر.


١ الراح الخمر، والعسجدية نسية إلى العسجد وهو الذهب، ويريد بها كأسًا مذهبة لا من ذهب، وحباه بكذا يحبوه إعطاه ومنحه، وفارس هي الأمة المعروفة.
٢ قرارتها أسفلها، وهي هنا ظرف مكان، والمها جمع مهاة، وهي البقرة الوحشية يضرب بها المثل في حسن العيون، ورواية الديوان "مها تدريها" وادري الصيد ختله، القسي جمع قوس، يقول: إن الكأس محلاة من أسفلها بصورة كسرى، أما جوانبها فمحلاة بصورة فرسان يتحينون غفلة المها، ليرموها بسهام أقواسهم.
٣ الجيب طوق الثوب، والقلانس جمع قلنسوة لباس للرأس، يقول: أنهم كانوا يصبون الخمر في تلك الكأس، حتى تحاذي أطواق صورة الفوارس، ثم يمزجونها بالماء حتى تحاذي رءوسهم.
٤ هو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني البصري، ولد بالبصرة وتربى فيها، ودرس هناك كل ما كان ذائعا من العلوم والفنون في أيامه، ولازم إبراهيم بن يار النظام المتكلم المعتزلي، وأخذ عنه، حتى صار زعيم فرقه تنسب إليه، وعرف كثيرا من كبار الكتاب، والمترجمين والفرس غيرهم، وقرأ كل ما ترجم في زمانه ووقع عليه نظره، فكان من كبار العلماء والكتاب، ومات بالبصرة سنة ٢٥٥هـ.
٥ في الأصل "لها" في عبارة غير مفهومة، ولعل الصواب ما ذكرناه، والإشارة إلى المبرد والجاحظ الذين عدا هذا المعنى مبتدعا، وأكثر به من شأن أبي نواس، فيما نرى.

<<  <  ج: ص:  >  >>