للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولما كان الأمر كذلك استعار لوسطه صلبًا، وجعله متمطيًا واستعار لصدره المتثاقل -أعني أوله- كلكلًا، وجعله نائيًا، واستعار لآخره عجزًا، وجعله رادفًا لوسطه، وكل ذلك من الاستعارة المناسبة.

وأما قول ابن سنان الخفاجي: "إن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى بعيدة مطرحة"، فإن في هذا القول نظرًا.

وذاك أنه قد ثبت لنا أصل نقيس عليه في الفرق بين الاستعارة المرضية والمطرحة، كما أريناك، ولا يمنع ذلك من أن تجيء استعارة مبنية على استعارة أخرى، وتوجد فيها المناسبة المطلوبة في الاستعارة المرضية، فإنه قد ورد في القرآن الكريم ما هو من هذا الجنس، وهو قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} ١.

فهذه ثلاث استعارات ينبني بعضها على بعض:

فالأولى: استعارة القرية للأهل.

والثانية: استعارة الذوق للباس.

والثالثة: استعارة اللباس للجوع والخوف.

وهذه الاستعارات الثلاث من التناسب على ما لا خفاء به.

فكيف يذم ابن سنان الخفاجي الاستعارة المبنية على استعارة أخرى؟ وما أقول: إن ذلك شذ عنه، إلا؛ لأنه لم ينظر إلى الأصل المقيس عليه، وهو التناسب بين المنقول عنه والمنقول إليه، بل نظر إلى التقسيم الذي هو قسمه في القرب، أو البعد، ورأى أن الاستعارة المبنية على استعارة أخرى تكون بعيدة، فحكم عليها بالاطراح.

وإذا كان الأصل إنما هو التناسب، فلا فرق بين أن يوجد في استعارة واحدة: أو في استعارة مبنية على استعارة.

ولهذا أشباه ونظائر في غير الاستعارة.


١ سورة النحل الآية: ١١٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>