والفائدة الثانية: وهي الأبلغ، وذاك أنه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح، أو غيره على نفسه، إذ يكون مخاطبًا بها غيره، ليكون أعذر وأبرأ من العهدة، فيما يقوله غير محجور عليه.
وعلى هذا فإن التجريد ينقسم قسمين:
أحدهما: تجريد محض.
والآخر: تجريد غير محض.
التجريد المحض:
فالأول -وهو المحض- أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك، وأنت تريد به نفسك، وذلك كقول بعض المتأخرين، وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص١ في مطلع قصيدة له:
إلام يراك المجد في زي شاعر ... وقد نحلت شوقًا فروع المنابر
كتمت بعيب الشعر حلمًا وحكمة ... ببعضهما ينقاد صعب المفاخر
أما وأبيك الخير إنك فارس ... مقال ومحيي الدارسات الغوابر
وإنك أعييت المسامع والنهى ... بقولك عما في بطون الدفاتر
فهذا من محاسن التجريد، ألا ترى أنه أجرى الخطاب إلى غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعد ما عده من الفضائل التائهة.
وكل ما يجيء من هذا القبيل، فهو التجريد المحض.
١ هو أبو الفوارس سعد بن محمد بن سعد بن صيفي التميمي، الملقب شهاب الدين، المعروف بحيص بيص، الشاعر المشهور، كان فقيها شافعي المذهب، تفقه بالري: ثم غلب عليه الأدب ونظم الشعر، فأجاده مع جزالة اللفظ، وله رسائل بليغة، وكان أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغتهم، وكان فيه تيه وتعاظم، ولا يخاطب أحدا إلا بالكلام العربي، وكان يلبس زي الأعراب. ويتقلد سيفا، وقيل له: الحيص بيص؛ لأنه رأي الناس مرة في حركة مزعجة وأمر شديد، فقال: ما للناس في حيص بيص؟ أي في شدة واختلاط، فبقي عليه هذا اللقب توفي سنة ٥٧٤هـ ببغداد، ودفن في الجانب الغربي في مقابر قريش.