للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا ترى أنه قال أولًا: "لقيت عبيدة" بلفظ الماضي، ثم قال بعد ذلك: "فأطعن بها في عينه"، ولو عطف كلامه على أوله لقال: فطعنت بها في عينه!

وعلى هذا ورد قول تأبَّطَ شرًّا١:

بأبي قد لقيت الغول تهوي ... بسهب كالصحيفة صحصحان٢

فأضربها بلا دهش فخرت ... صريعا لليدين وللجران٣

فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول، كأنه يبصرهم إياها مشاهدة، للتعجب من جراءته على ذلك الهول، ولو قال: "فضربتها" عطفًا على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة.

فإن قيل: إن الفعل الماضي أيضًا يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل!

قلت في الجواب: إن التخيل يقع في الفعلين معًا، لكنه في أحدهما -وهو المستقبل- أوكد وأشد تخيلا؛ لأنه يستحضر صورة الفعل، حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه.

ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا: "فأضربها" تخيل السامع أنه مباشر للفعل، وأنه قائم بإزاء الغول، وقد رفع سيفه ليضربها، وهذا لا يوجد في الفعل الماضي؛ لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلًا قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه، وهذا لا خلاف فيه.

وهكذا يجري الحكم في جميع الأبيات المذكورة، وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنه وفي الأبيات الشعرية.


١ اسمه ثابت، وكنيته أبو زهير، وهو من بني فهم، وفهم وعدوان أخوان. وكان أحد العدائين، وإنما لقب؛ تأبط شرا؛ لأنه تأبط سكينا ذات يوم وخرج، فسئلت عنه أمه، فقالت: لا أدري إنه تأبط شرا وخرج! والبيتان في الأغاني "١٨-٢١٠" من جملة أبيات أولها:
ألا من مبلغ فتيان فهم ... بما لاقيت عند رحى بطان
٢ في الأصل "بشهب" وهو تصحيف، والسهب الأرض المستوية والصحصحان، الأرض المستوية الواسعة.
٣ الجران: جران البعير، وكذا الفرس: مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره.

<<  <  ج: ص:  >  >>