للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

"أنعم علي فلان، فأروح وأغدوا شاكرا له"، ولو قلت: فرحت وغدوت شاكرا له، لم يقع الموقع؛ لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى.

وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل.

وأما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل، فهو عكس ما تقدم ذكره، وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ، وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده؛ لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد، وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها.

والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل: واستحضار صورته، ليكون السامع كأنه يشاهدها، والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد بعد.

فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} ١.

فإنه إنما قال: {فَفَزِعَ} ، بلفظ الماضي بعد قوله: {يُنْفَخُ} -وهو مستقبل- للإشعار بتحقيق الفزع، وأنه كائن لا محالة؛ لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل، وكونه مقطوعًا به.

وكذلك جاء قوله تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} ٢.

وإنما قيل: {وَحَشَرْنَاهُمْ} ، ماضيا بعد: {نُسَيِّرُ} ، و {وَتَرَى} -وهما مستقبلان- للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير، والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال، كأنه


١ سورة النمل: الآية ٨٧.
٢ سورة الكهف: الآية ٤٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>