للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإلا فإذا ترك مؤلف الكلام نفسه تجري على سجيتها، وطبعها في الاسترسال لم يعرض له شيء من هذا التعقيد، ألا ترى أن المقصود من الكلام معدوم في هذا الضرب المشار إليه، إذ المقصود من الكلام إنما هو الإيضاح، والإبانة وإفهام المعنى، فإذا ذهب هذا الوصف المقصود من الكلام ذهب المراد به.

ولا فرق عند ذلك بينه وبين غيره من اللغات كالفارسية، والرومية وغيرها.

واعلم أن هذا الضرب من الكلام هو ضد الفصاحة؛ لأن الفصاحة هي الظهور والبيان، وهذا عار عن هذا الوصف.

أما الضرب الثاني١ الذي يختص بدرجة التقدم في الذكر لاختصاصه بما يوجب له ذلك فإنه مما لا يحصره حد، ولا ينتهي إليه شرح، وقد أشرنا إلى نبذة منه في هذا الكتاب؛ ليستدل بها على أشباهها ونظائرها.

فمن ذلك تقديم السبب على المسبب، كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنه إنما قدم العبادة على الاستعانة؛ لأن تقديم القربة والوسيلة قبل طلب الحاجة أنجح لحصول الطلب، وأسرع لوقوع الإجابة، ولو قال: إياك نستعين، وإياك نعبد لكان جائزا إلا أنه لا يسد ذلك المسد، ولا يقع ذلك الموقع.

وهذا لا يخفى على المنصف من أرباب هذه الصناعة.

وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} ٢.


١ سبق للمؤلف في هذا الفصل أن جعل التقديم والتأخير ضربين، الأول يختص بدلالة الألفاظ على المعاني، ولو أخر المقدم أو قدم المؤخر لتغير المعنى، والثاني: يختص بدرجة التقدم في الذكر، لاختصاصه بما يوجب له ذلك، ولو أخر لما تغير المعنى.
٢ سورة الفرقان: الآيتان ٤٨ و٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>