للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فمما ورد منه قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ١.

ألا ترى إلى بداعة هذا المعنى المقصود لمخالفة حرفي الجر ههنا، فإنه إنما خولف بينهما في الدخول على الحق والباطل؛ لأن صاحب الحق كأنه مستعل على فرس جواد يركض به حيث شاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض فيه: لا يدري أين يتوجه، وهذا معنى دقيق، قلما يراعى مثله في الكلام.

وكثيرا ما سمعت إذا كان الرجل يلوم أخاه، أو يعاتب صديقه على كل أمر من الأمور، فيقول له: أنت على ضلالك القديم كما أعهدك، فيأتي بعلى في موضع في، وإن كان هذا جائزا إلا أن استعمال في ههنا أولى، لما أشرنا إليه.

ألا ترى إلى قوله تعالى في سورة يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} ٢.

ومن هذا النوع قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} ٣.

فإنه إنما عدل عن اللام إلى "في" في الثلاثة الأخيرة للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره باللام؛ لأن "في" للوعاء، فنبه على أنهم أحقاء بأن توضع فيهم الصدقات كما يوضع الشيء في الوعاء، وأن يجعلوا مظنة لها، وذلك لما في فك الرقاب، وفي الغرم من التخلص، وتكرير "في" قوله: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، دليل على ترجيحه على الرقاب وعلى الغارمين، وسياق الكلام أن يقال: وفي الرقاب والغارمين، وسبيل الله وابن السبيل، فلما جيء بفي ثانية، وفصل بها بين الغارمين وبين سبيل الله علم أن سبيل الله أوكد في استحقاق النفقة فيه.

وهذه لطائف ودقائق لا توجد إلا في هذا الكلام الشريف، فاعرفها، وقس عليها.


١ سورة سبأ: الآية ٢٤.
٢ سورة يوسف: الآية ٩٥.
٣ سورة التوبة: الآية ٦٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>