للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا، يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} ١.

هذا كلام يهز أعطاف السامعين، وفيه من الفوائد ما أذكره، وهو لما أراد إبراهيم عليه السلام أن ينصح أباه ويعظه، وينقذه مما كان متورطًا فيه من الخطأ العظيم الذي عصى به أمر العقل، رتب الكلام معه في أحسن نظام، مع استعمال المجاملة واللطف، والأدب الحميد والخلق الحسن، مستنصحا في ذلك بنصيحة ربه، وذاك أنه طلب منه أولًا العلة في خطيئته طلب منبه على تماديه موقظ غفلته؛ لأن المعبود لو كان حيا مميزا سميعًا بصيرًا مقتدرًا على الثواب، والعقاب إلا أنه بعض الخلق يستخف عقل من أهله للعبادة، ووصفه بالربوبية، ولو كان أشرف الخلائق كالملائكة والنبيين، فكيف بمن جعل المعبود جمادا لا يسمع ولا يبصر، يعني به الصنم.

ثم ثنى ذلك بدعوته إلى الحق مترفقا به، فلم يسم أباه بالجهل المطلق، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي لطائفة من العلم وشيئا منه، وذلك علم الدلالة على سلوك الطريق، فلا تستنكف وهب أني، وإياك في مسير وعندي معرفة بهداية الطرق دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل.

ثم ثلث ذلك بتثبيطه عما كان عليه ونهيه، فقال: إن الشيطان الذي استعصى على ربك، وهو عدوك وعدو أبيك آدم هو الذي ورطك في هذه الورطة، وألقاك في هذه الضلالة، وإنما ألقى إبراهيم عليه السلام ذكر معاداة الشيطان إلا التي تختص بالله، وهي عصيانه واستكباره، ولم يلتفت إلى ذكر معاداته آدم وذريته.

ثم ربّع ذلك بتخويفه إياه سوء العاقبة، فلم يصرح بأن العقاب لاحق به، ولكنه قال: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ} ، فنكر العذاب ملاطفة لأبيه، وصدر كل نصيحة من هذه النصائح بقوله: {يَا أَبَتِ} توسلا إليه، واستعظاما.


١ سورة مريم: الآيات ٤١ و٤٢ و٤٣ و٤٤ و٤٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>