للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما ما يأتي على حكم الحقيقة فكقول ابن الرومي١:

سقى الله أوطارًا لنا ومآربًا ... تقطَّع من أقرابها ما تقطَّعا

ليالٍ تنسِّيني الليالي حسابها ... بُلهْنيَة أقضي بها الحول أجمعا

سوى عِزَّة لا أعرف اليوم باسمه ... وأعمل فيه اللهو مرأى ومسمعا

فقوله: "لا أعرف اليوم باسمه" من الكلمات الجامعة، أي: إني قد شغلت باللذات عن معرفة الليالي والأيام، ولو وصف اشتغاله باللذات مهما وصف لم يأت بمثل قوله: "لا أعرف اليوم باسمه".

وأما القسم الثاني من جوامع الكلم، فالمراد به الإيجاز الذي يدل به بالألفاظ القليلة على المعاني الكثيرة: أي: إن ألفاظه -صلوات الله عليه- جامعة للمعاني المقصودة على إيجازها واختصارها، وجلّ كلامه جارٍ هذا المجرى، فلا يحتاج إلى ضرب الأمثلة به، وسيأتي في باب الإيجاز منه ما فيه كفاية ومقنع.

فإن قيل: فما الفرق بين هذين القسمين اللذين ذكرتهما، فإنهما في النظر سواء? قلت في الجواب: إن الإيجاز هو أن يؤتى بألفاظ دالَّة على معنى من غير أن تزيد على ذلك المعنى، ولا يشترط في تلك الألفاظ أنها لا نظير لها، فإنها تكون قد اتصفت بوصف آخر خارج عن وصف الإيجاز، وحينئذ يكون إيجازًا وزيادة. وأمَّا هذا القسم الآخر فإنه ألفاظ أفراد في حسنها لا نظير لها، فتارة تكون موجزة، وتارة لا تكون موجزة، وليس الغرض منها الإيجاز، وإنما الغرض مكانها من الحسن الذي لا نظير لها فيه، ألا ترى إلى قول أبي تمام "وطن النهي"؟ فإن ذلك عبارة عن الرأس، ولا شكَّ أن الرأس أوجز، لأن الرأس لفظة واحدة، و"وطن النهي" لفظتان، إلّا أن "وطن النهي" أحسن في التعبير عن الرأس من الرأس, فبان بهذا أن أحد هذين القسمين غير الآخر.


١ ديوان ابن الرومي ٢٩٩, وروي صدر البيت الثالث في الديوان هكذا:
سدى غرة لا أعرف اليوم بأسه

<<  <  ج: ص:  >  >>