للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثم سألته ليلة من الليالي عن الصبح لنرتحل من موضعنا، فقال: "قد ظهر الصبح إلّا أنه لم يملك الإنسان بصره"، وهذا القول من الحكمة أيضًا.

وكان تزوَّج غلام من غلماني دمشق، فوقعت المرأة منه بموقع، وشغِفَ بها ثَمَّ سافرت عن دمشق لمهَمٍّ عرض لي، وسافر ذلك الغلام في صحبتي، فلما عدنا من السفر شغل بامرأته والمقام عندها، فسألته عن حاله فقال: إنها قد طالت وحسنت، وهي كذا وكذا، وأخذ يصفها، فقال أخ له كان حاضرًا: يا مولاي، هي تلك لم تزد شيئًا، وإنما هي في عينه جبَّارٌ من الجبابرة!

وهذا القول قد ورد في بعض أبيات الحماسة وهي معدود من أبيات المعاني:

أهابك إجلالًا وما بك قدرةٌ ... علي ولكن ملء عينٍ حبيبها١

فكثيرًا ما يصدر مثل هذه الأقوال عن ألسنة الجهال.

وسمعت ما يجري هذا المجرى من بعض العبيد الأحابش الذين لا يستطيعون تقويم صيغ الألفاظ، فضلًا عمَّا وراء ذلك، وذاك أنه رأى صبيًّا في يده طاقة ريحان، فقال: "هذه طاقة آسٍ تحمل طاقة ريحان". فلمَّا سمعت ذلك منه أخذتني هزة التعجب، وذكرت شعر أبي نواس الذي تواصفه الناس في هذا المعنى، وهو قوله:

ووردةٍ بها شادنٌ ... في كفه اليمنى فحيَّانا

سَبَّحْتُ ربي حين أبصرتها ... ريحانة تحمل ريحانَا

وحضر عندي في بعض الأيام رجل نصراني موسوم بالطب، وكان لا يحسن أن يقول كلمة واحدة، وهو أقلف اللسان، يسيء العبارة, فسألته عن زيارة شخص وهل يتردد إليه أم لا، فقال: "ظلام الليل يهديني إلى باب من أوده، وضوء النهار يضل به عن باب من لا أوده"، وهذا من ألطف المعاني وأحسنها وهو من الحكمة المطلوبة.

وكنت قصدت زيارة بعض الإخوان من الأجناد وهو من الأغتام٢ الأعجام، فسألته عن حاله، وكان توالت عليه نكبات طالت أيامها، وعظمت


١ ديوان الحماسة ٢/ ١٣١.
٢ جمع أغنم، وهو من لا يفصح شيئًا.

<<  <  ج: ص:  >  >>