هي الانتقال من مكان إلى مكان، فجعل ذلك لنقل الألفاظ من محل إلى محل، كقولنا: زيدٌ أسدٌ، فإن زيدًا إنسان، والأسد هو هذا الحيوان المعروف، وقد جزنا من الإنسانية إلى الأسدية، أي: عبرنا من هذه إلى هذه لوصلة بينهما، وتلك الوصلة هي صفة الشجاعة.
وقد يكون العبور لغير وصلة، وذلك هو "الاتِّساع"، كقولهم في كتاب "كليلة ودمنة" قال الأسد، وقال الثعلب، فإن القول لا وصلة بينه وبين هذين بحالٍ من الأحوال، وإنما أُجْرِيَ عليها اتساعًا محضًا لا غير.
ولهذا مثال في المجاز الحقيقيِّ الذي هو المكان المجاز فيه، فإنه لا يخلو إمَّا أن يجاز من سهل إلى سهل، أو من وعر إلى وعر كقولنا: زيد أسد، فالمشابهة الحاصلة في ذات بينهما كالمشابهة الحاصلة في المكان، والجواز من سهل إلى وعر كقولهم: قال الأسد، وقال الثعلب، فكما أنه لا مشابهة بين القول وبين هذين، فكذلك لا مشابهة بين السهل والوعر، وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك, وإشباع القول في تحقيقه في باب "الاستعارة" فليؤخذ من هناك.
وقد ذهب قوم إلى أن الكلام كلَّه حقيقة لا مجاز فيه، وذهب آخرون إلى أنه كله مجاز لا حقيقة فيه، وكلا هذين المذهبين فاسد عندي.
وسأجيب الخصم عمَّا ادعاه فيهما، فأقول: محل النزاع هو أن اللغة كلها حقيقة أو أنها كلها مجاز، ولا فرق عندي بين قولك: إنها كلها حقيقة, أو إنها كلها مجاز، فإن كلا الطرفين عندي سواء؛ لأن منكرهما غير مُسَلِّمٍ لهما، وأنا بصدد أن أبين أن في اللغة حقيقة ومجازًا.
و"الحقيقة اللغوية"، هي حقيقة الألفاظ في دلالتها على المعاني، وليست بالحقيقة التي هي ذات الشيء, أي: نفسه وعينه، فالحقيقة اللفظية إذًا هي دلالة اللفظ على المعنى الموضوع له في أصل اللغة، والمجاز هو نقل المعنى عن اللفظ الموضوع له إلى لفظ آخر غيره.
وتقرير ذلك بأن أقول: المخلوقات كلها تفتقر إلى أسماء يستدلّّ بها عليها، ليعرف كل منها باسمه، من أجل التفاهم بين الناس، وهذا يقع ضرورة لا بُدَّ منها، فالاسم الموضوع بإزاء المسمَّى هو حقيقة له، فإذا نقل إلى غيره صار مجازًا.