للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فليس يذهب على السامع -وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثاني- أن عجزه هو ما قاله البحتري.

وقد جاء الإرصاد في الكلام المنثور كما جاء في الشعر.

فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ١.

فإذا وقف السامع على قوله تعالى: {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ} عرف أن بعده "يختلفون" لما تقدم من الدلالة عليه.

ومن ذلك أيضًا قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ٢ وعلى نحو منه جاء قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} ٣ فإذا وقع السامع على قوله عز وجل: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ} يعلم أن بعده بيت العنكبوت.

ورأيت أبا هلال العسكري قد سمى هذا النوع التوشيح٤، وليس


١ سورة يونس ١٩.
٢ سورة العنكبوت ٤٠.
٣ سورة العنكبوت ٤١.
٤ في كتاب الصناعتين ٣٨٢ "سمي هذا النوع التوشيح، وهذه التسمية غير لازمة بهذا المعنى، ولو سمي بتبيينا لكان أقرب، وهو أن يكون مبتدأ الكلام ينبئ عن مقطعه، وأوله يخبر بآخره، وصدره يشهد بعجزه، حتى لو سمعت شعرا، أو عرفت رواية، ثم سمعت صدر بيت منه وقفت على عجزه قبل بلوغ السماع إليه.." ومن هذا يبدو أن ابن الأثير قد وهم في نسبة تسمية هذا الفن "التوشيح" إلى أبي هلال العسكري، والحقيقة أن الذي سماه بذلك قدامة بن جعفر؛ لأنه جعل التوشيح من أنواع ائتلاف القافية مع ما يدل عليه سائر معنى البيت، وقال في تعريفه، هو أن يكون أول البيت شاهدا بقافيته ومعناها متعلقا به، حتى إن الذي يعرف قافية القصيدة إذا سمع أول البيت منها عرف آخره، وبانت له قافيته "نقد الشعر"

<<  <  ج: ص:  >  >>