يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة, أو من ذوقه غير ذوق سليم، لا جرم أنه ذمّ وقدح فيه, ولم يلتفت إليه، وإن كان عربيًا محضًا من الجاهلية الأقدمين، فإن حقيقة الشيء إذا علمت وجب الوقوف عندها، ولم يعرج على ما خرج عنها.
وإذن ثبت أنَّ الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البيِّن، وإنما كان ظاهرًا بينًا لأنه مألوف الاستعمال، وإنما كان مألوف الاستعمال لمكان حسنه، وحسنه مدرك بالسمع, والذي يدرك بالسمع إنما هو اللفظ، لأنه صوت يأتلف عن مخارج الحروف، فما استلذه السمع منه فهو الحسن، وما كرهه فهو القبيح، والحسن هو الموصوف بالفصاحة، والقبيح غير موصوف بفصاحة؛ لأنه ضدها لمكان قبحه، وقد مثَّلْتُ ذلك في المثال المتقدم بلفظ "المزنة" و"الديمة" ولفظة "البعاق".
ولو كانت الفصاحة لأمر يرجع إلى المعنى لكانت هذه الألفاظ في الدلالة عليه سواء: ليس منها حسن ومنها قبيح، ولما لم يكن كذلك علمنا أنها تخص اللفظ دون المعنى.
وليس لقائل ههنا أن يقول: لا لفظ إلّا بمعنى، فكيف فصلت أنت بين اللفظ والمعنى? فإني لم أفصل بينهما، وإنما خصصت اللفظ بصفة هي له، والمعنى يجيء فيه ضمنًا وتبعًا.
الوجه الثاني: إن وزن "فعيل" هو اسم فاعل من "فعل" بفتح الفاء وضم العين نحو كرم فهو كريم، وشرف فهو شريف، ولطف فهو لطيف، وهذا مطرد في بابه، وعلى هذا فإن اللفظ الفصيح هو اسم فاعل من فصح فهو فصيح، واللفظ هو الفاعل للإبانة عن المعنى، فكانت الفصاحة مختصة به.
فإن قيل: إنك قلت: إن الفصيح من الألفاظ هو الظاهر البين، أي: المفهوم، ونرى من آيات القرآن الكريم ما لا يفهم ما تضمَّنَه من المعنى إلّا باستنباط وتفسير، وتلك الآيات فصيحة لا محالة، وهذا بخلاف ما ذكرته.
قلت: لأنَّ الآيات التي تستنبط وتحتاج إلى تفسير ليس شيء منها إلّا