للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من هناك. وهو مما يدل على حذاقة الكاتب وفطانته، وكثيرًا ما تجده في مكاتباتي التي أنشأتها، فإني قصدته فيها, وتوخيته بخلاف غيري من الكُتَّاب؛ لأنه ربما يوجد في كتابة غيري قليلًا، وتجده في كتابتي كثيرًا.

الركن الثالث: أن يكون خروج الكاتب من معنًى إلى معنًى برابطة، لتكون رقاب المعاني آخذة بعضها ببعض، ولا تكون مقتضبة، ولذلك باب مفرد أيضًا يسمَّى باب "التخلُّص والاقتضاب١". وهذا الركن أيضًا يشترك فيه الكاتب والشاعر.

الركن الرابع: أن تكون ألفاظ الكتاب غير مخلولقة بكثرة الاستعمال, ولا أريد بذلك أن تكون ألفاظًا غريبة، فإنَّ ذلك عيب فاحش، بل أريد أن تكون الألفاظ المستعملة مسبوكة سبكًا غريبًا، يظن السامع أنها غير ما في أيدي الناس، وهي مما في أيدي الناس، وهناك معترك الفصاحة التي تظهر فيه الخواطر براعتها، والأقلام شجاعتها، كما قال البحتري:

باللفظ يقرب فهمه في بعده ... عنا ويبعد نيله في قربه٢

وهذا الموضع بعيد المنال، كثير الإشكال، يحتاج إلى لطف وذوق وشهامة خاطر، وهو شبيه بالشيء الذي يقال: إنه لا داخل العالم ولا خارج العالم، فلفظه هو الذي يستعمل، وليس بالذي يستعمل, أي: إن مفردات ألفاظه هي المستعمَلة المألوفة، ولكن سبكه وتركيبه هو الغريب العجيب.

وإذا سموت أيها الكاتب إلى هذه الدرجة، واستطعمت طعم هذا الكلام المشار إليه، علمت حينئذ أنه كالروح الساكنة في بدنك التي قال الله فيها: {قُلِ الرُّوحُ


١ في الأصل "التلخيص", والتخلص والاقتضاب هو النوع الثالث والعشرون من ضروب الصناعة المعنوية.
٢ ديوان البحتري ٢/ ١٩٩, ورواية الديوان "منَّا" موضع "عنا" والبيت من قصيدة يمدح بها الحسن بن وهب.

<<  <  ج: ص:  >  >>