للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ألا يخرج عنه، كالذي سلكه هذان الرجلان في الرثاء بامرأة، فإن من حذاقة الصنعة أن يذكر ما يليق بالمرأة دون الرجل.

وهذا الموضع لم يأت فيه أحد بما يثبت على المحك إلا أبو الطيب وحده، وأما غيره من مفلقي الشعراء قديما وحديثا فإنهم قصروا عنه.

وله في هذا المعنة قصيدة أخرى مفتتحها:

نعد المشرفية والعوالي ... وتقتلنا المنون بلا قتال١

وكفى بها شاهدا على ما ذكرته من انفراده بالإبداع فيما أتى به.

والفتيا عندي بينه وبين البحتري أن أبا الطيب أنفذ في المضيق، وأعرف باستخراج المعنى الدقيق، وأما البحتري فإنه أعرف بصوغ الألفاظ، وحوك ديباجتها.

وقد قدمت أن الحكم بين الشاعرين في اتفاقهما في المعنى أبين من الحكم بينهما فيما اختلفا فيه؛ لأنهما مع الاتفاق في المعنى يتبين قولاهما، ويظهران ظهورا يعلم ببديهة النظر، ويتسارع إليه فهم من ليس بثاقب الفهم، وأما اختلافهما في المعنى فإنه يحتاج في الحكم بينهما فيه إلى كلام طويل يعز فهمه، ولا يتفطن له إلا بعض الناس دون بعض، بل لا يتفطن له إلا الفذ الواحد من الناس.

ولي في هذا مقالة مفردة ضمنتها الحكم بين المعنيين المختلفين، وتكلمت عليه كلاما طويلا عريضا، وأقمت الدليل على ما نصصت عليه، وما منعني من إيرادها في كتابي هذا إلا أنها سنحت لي بعد تصنيفه وشيوعه في أيدي الناس، وتناقل النسخ به.

وعلى هذا الأسلوب توارد البحتري والشريف الرضي على ذكر الذئب في قصيدة للبحتري دالية أولها.


١ في رثاء والدة سيف الدولة "الديوان ٣/ ١٧٠".
المشرفية: السيوف. العوالي: الرماح.

<<  <  ج: ص:  >  >>