طريق الإحسان في منظومه؛ لأن الترسل هو ما وضح معناه، وأعطاك سماعه في أول وهلة ما تضمنته ألفاظه، وأفخر الشعر ما غمض فلم يعطك غرضه إلا بعد مماطلة منه.
ثم قال بعد ذلك: ولسائل أن يسأل فيقول: من أية جهة صار الأحسن في معنى الشعر الغموض، وفي معاني الترسل الوضوح؟.
فالجواب أن الشعر بُني على حدود مقررة وأوزان مقدرة وفصلت أبياته، فكان كل بيت منها قائما بذاته، وغير محتاج إلى غيره، إلا ما جاء على وجه التضمين، وهو عيب، فلما كان النفس لا يمتد في البيت الواحد بأكثر من مقدار عروضه وضربه، وكلاهما قليل، احتيج إلى أن يكون الفصل في المعنى، فاعتمد أن يلطف ويدق.
والترسل مبني على مخالفة هذه الطريق؛ إذ كان كلاما واحدا لا يتجزأ ولا يتفصل إلا فصولا طوالا، وهو موضوع وضع ما يهذهذ١ أو يمر به على أسماع شتى من خاصة ورعية، وذوي أفهام ذكية وأفهام غبية، فإذا كان متسلسلا ساغ فيها وقرب، فجميع ما يستحب في الأول يكره في الثاني، حتى إن التضمين عيب في الشعر وهو فضيلة في الترسل.
ثم قال بعد ذلك: والفرق بين المترسلين والشعراء أن الشعراء إنما أغراضهم التي يرمون إليها وصف الديار والآثار والحنين إلى الأهواء والأوطار، والتشيب بالنساء، والطلب والاجتداء، والمديح والهجاء، وأما المترسلون فإنما يترسلون في أمر سداد ثغر، وإصلاح فساد، أو تحريض على جهاد، أو احتجاج على فئة، أو مجادلة لمسألة، أو دعاء إلى ألفة، أو نهي عن فرقة، أو تهنئة بعطية، أو تعزية برزية، أو ما شاكل ذلك.