وانظر إلى قوله:{بِمَا تُؤْمَرُ} وكيف عبر عن الدين وأمر الله بهذه الصيغة التي تبعد عن هذا الأمر عنصر البشرية وذاتية محمد -صلى الله عليه وسلم- فالذي ينادَى به ويجهر بالدعوة إليه أمر تلقاه وليس غير ذلك، ثم انظر إلى الأمر الذي تلاه:{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، وكيف حدد موقف الداعي من جبهة العناد والضلال وأنه الإعراض عنهم؛ حتى لا تستهلك طاقة الداعية في لجاجتهم الغوغائية، وفي محيطهم السلبي المعطل.
ويقرب من هذه الاستعارة في بعض دلالتها قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(الشورى: ٥٢) فالمراد ليس هو الصراط الذي تراه عينك طريقًا واضحًا مستقيمًا، وإنما المراد حقائق الدين ومنهج القرآن، وتجاوبه مع الفطرة الصحيحة، واستقامته في نفوس أهل الحق واليقين، كأنه طريق واضح يصف منهجًا بينا ويحدد المعالم تحديدًا مضيئًا، فالموقن بهذا الدين لا يبحث عن خطة يمضي في حياته عليها، وإنما الطريق بين يديه وهو طريق مستقيم، وما عليه إلا أن يمضي.
وقد تكررت هذه الاستعارة في القرآن؛ لتنفي عن هذا الدين التلبيس والغموض الذي يُثقِل كثيرًا من الديانات، الدين هنا صراط مصروط لا عوج فيه ولا غموض، وتجد هذا الصراط مضافًا في مثل قوله:{وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا}(الأنعام: ١٢٦) وفي هذه الإضافة تأكيد لمعنى أن حقائق هذا الدين لا تَلتبس ولا تُلتبس بغيرها، وأنه سيظل في أصوله نقيًّا خاليًا من الآثار البشرية التي لا يجوز أن تختلط به؛ لأنه ينفيها ويكشفها بوضوح الربانية فيه:{صِرَاطُ رَبِّكَ} فهو خط واضح تحددت حدوده، فلا يلتبس بغيره.
ولأجل تأكيد هذا المعنى -أعني: وضوح حقائق هذا الدين وتحديدها- تجد التعبير عنها بالنور يكثر في هذا الكتاب مثل:{وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ}(الأعراف: ١٥٧)