وبعد هذه الإفاضة في الحديث عن الاستعارة المكنية يأتي الدور على الاستعارة التصريحية، وإنما بدأت بالمكنية؛ لأنها الأقوى في تأكيد المعنى، لما بها من إثبات لازم المشبه به للمشبه على سبيل التخييل، ولأن ثمة اتجاها قد تبناه السكاكي يرى ردَّ الاستعارة التصريحية التبعية إلى المكنية، وهو وإن اعترض عليه الخطيب وردَّه إلا أن ذلك على أي حال استلزم الحديث عن المكنية أولًا؛ إذ لا يمكن تصور التبعية على هذا الرأي إلا بالتعرف على المكنية أولًا.
ولعلك وقبل أن نفيض في الحديث عن الاستعارة التصريحية تكون قد عرفت كيف تجري الاستعارة، وأزيدك هنا فأقول: إن طريقة الغوص وراء إيحاءات الاستعارة، وهذا على الرغم من أهميته يُدرك بملاحظة السياق الذي تأتي الاستعارة ترجمة له، وبمراعاة اختيار اللفظ وحسن توظيفه في السياق، لكن إدراك هذا أمر موكول لصفاء القريحة، والدربة في تذوق الأساليب، وهذا يتوقف على إدراك البنية الطبيعية للاستعارة، فتحليل الاستعارة يجعلنا نحاول استدعاء المعنى المتخيل باللفظ المستعار، وباستدعاء المعنى نكون قد ظفرنا بالطرفين اللذين تقع فيهما المشابهة.
فإذا ظفرنا بهما أدركنا صنيع الخيال في صهر الطرفين، وإدخال أولاهما في ثانيهما، ثم استعمال ذلك الثاني مرادًا به الأول، هذا إذا كان المستعار من الثوابت التي لا يلحق بها تغيير الاشتقاق، وهو ما يُعبَّر عنه بقولهم اسم جنس جامد، فإن كان مما يلحق به تغيير الاشتقاق كالأفعال، والأسماء المشتقة جرت الاستعارة أولًا في المصدر، ثم تبع ذلك اشتقاق الفعل أو الاسم المشتق من المصدر.