خاصةً وأن الكل قد ورد في النظم الكريم، فالأولى أن يقال: إن كل نوع منها حسن في موضعه، أما ما يستقبح فهو أن تطول الفقرة الثانية عن الأولى كثيرًا، بحيث يخرج بها هذا الطولُ عن حد الاعتدال؛ لأن هذا يفوت على السامع لذةَ الاستمتاع بالقافية لبُعدها بعدًا كثيرًا، كما يقبح أن تقصر الثانية عن الأولى قصرًا كثيرًا؛ لأن السجع إذا استوفَى أمدَه من الأولى لطولها، ثم جاءت الثانية أقصر منها كثيرًا، كان ذلك كالشيء المبتور، ويبقَى السامع كمَن يريد الانتهاء إلى غاية، فيعثر دونها، ومن ثَم لم يرد شيء من ذلك في أساليب النظم الكريم.
بلاغة السجع
وننهي كلامنا بالحديث عن بلاغة السجع، ونقول:
إن بلاغة السجع ترجع إلى أنه يؤثر في النفوس تأثيرَ السحر، ويلعب بالأفهام لعبَ الريح بالهشيم؛ لِمَا يحدثه من النغمة المؤثرة، والموسيقى القوية التي تطرب لها الأذن، وتَهش لها النفس، فتُقبل على السماع من غير أن يداخلها مَلل، أو يخالطها فتور، فيتمكن المعنى في الأذهان، ويَقر في الأفكار، ويَعز لدى العقول. ولَمَّا قيل للرقاشي:"لِمَ تؤثر السجع على المنثور، وتلزم نفسك القوافي وإقامةَ الوزن؟ قال: إن كلامي لو كنتُ لا آمُل فيه إلا سماع الشاهد لقل خلافي عليه، ولكني أريد الغائب والحاضر، والراهن والغابرَ، فالحفظ إليه أسرع، والآذان لسماعه أنشط، وهو أحق بالتقييد وبقلة التفلت". وهكذا، فالسجع له فائدة كبرى على النثر العربي، فهو يساعد على حفظ الخطاب والحكم والأمثال، ذلك أن انتهاء الجمل بحرف واحد أو حرفين أو أكثر يجعل الأذنَ تَهش له، والقلب يميل إليه.