ومن بعده جاء السكاكي في غرة مصنفاته (مفتاح العلوم) وقسمه إلى ثلاثة أقسام أساسية، خص القسم الثالث منها بعلم المعاني والبيان، ثم ألحق بهما نظرة في الفصاحة والبلاغة ودراسة للمحسنات البديعية اللفظية والمعنوية. ومضى الخطيب القزويني بعده في كتاب (الإيضًاح) يعرض علم البديع بمحسناته عرضا أكثر تفصيلًا بالطبع من عرضه له في (تلخيص المفتاح) ومع هذا فهو خير من خلف السكاكي في دائرة تلخيص قواعد البلاغة وتقعيدها، وسرعان ما رأينا من خلفوه يعكفون على تلخيصه بالشرح مرارًا كأنهم رأوا فيه خير ما يجمع تلك القواعد.
نخلص مما سبق إلى أن ألوان البديع كانت تأتي في أشعار العرب القدامى عفو الخاطر، وأن مَن وليهم من نحو بشار ومسلم بن الوليد والعتابي وأبي نواس وأبي تمام وابن المعتز وأضرابهم؛ رأوا مواقع تلك الأبيات من الغرابة والحسن وتميزها، فتكلفوا الاحتذاء بها، حتى أضحى البديع صنعة لها روادها، وراح المولعون بهذه الأصباغ وعلى رأسهم الخليفة الشاعر عبد الله بن المعتز، يسجل هذه الألوان التي كثرت في الشعر، واستطاع أن يحولها إلى قواعد وأصول.
وقد تبعه في ذلك قدامة بن جعفر، وأبو هلال العسكري، وابن رشيق، ومن سُموا بأصحاب البديعيات، وهم الذين كانوا ينظمون أبياتًا في مدح الرسول -صلى الله عليه وسلم- يضمنونها هذه الأصباغ، وكثرت هذه الأصباغ كثرة فاحشة ومتكلفة، حتى أوصلها بعضهم إلى مائة وخمسين صبغًا بديعيًّا، وقد كان كثرتها سببًا في إسفافها وتجريدها -كما سبق أن ذكرنا- من الرواء والروعة التي كانت تتسم به في أشعار القدامى، وما ذلك إلا لأنها أضحت مؤخرًا تُقصد لذاتها وتأتي بطريق التعمل والتكلف.
والسؤال الأن: ماذا يَعني علم البديع في اصطلاح البلاغيين؟ وما هي أهم الجهود التي بُذلت حتى استقام عود هذا العلم، واستوى على سوقه؟