للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهو من مقتضيات الأحوال وموجبات الأغراض، وفضلًا عن هذا فإن الجمع بين الشيء وضده يُضفي على الكلام رونقًا وبهاءً، ويُكسب المعنى حسنًا ونُبلًا، وهو فوق تثبته المعنى في النفس يصف الشيء المتحدث عنه إزاء الضدين المتقابلين، ويجعل لكلٍّ منهما حسنًا لا يكون لهما إذا انفردَا، وهذا هو معنى قول القائل:

فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود

ضدان لما استجمعا حسُنا ... والضد يظهر حسنه الضد

وما من ريب في أن الجمع بين الأمور المتضادة يكسو الكلام جمالًا ويزيده بهاءً ورونقًا، فمن هنا كانت وظيفة الطباق لا تقف عند هذا الزخرف وتلك الزينة الشكلية، بل تتعداها إلى غايات أسمى، فلا بد أن يكون هناك معنى لطيف ومغزى دقيق وراء جمع الضدين في إطار واحد، وإلا كان هذا الجمع عبثًا وضربًا من الهذيان، ولننظر في قول الله تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} (القصص: ٧٣)، وقد جمعت الآية الكريمة بين الليل والنهار وهما نعمتان من نعم الله على عباده، ورحمة منه -عز وجل- بهم، ثم ذُكرت العلة من جعل الزمان ليلًا ونهارًا لنسكن ليلًا ونسعى ونتحرك نهارًا، والحركة ينبغي أن تكون لمصلحةٍ وابتغاء من فضل الله تعالى لا إفسادًا في الأرض، ولذا أوثر التعبير ابتغاء الفضل دون الحركة، والحركة تكون للإصلاح والإفساد، وابتغاء الفضل لا يكون إلا إصلاحًا، وفي ذكر العلة -كما ترى- جمع بين ضدين، هما السكن وابتغاء الفضل، وفي الجمع بين الضدين في صدر الآية ثم في عجزها، حث للمؤمن ليتأمل هذه النعمة لما كان الزمان ليلًا ونهارًا، سكنًا وابتغاءً.

وكيف يكون الحال لو كان الزمان نهارًا سرمدًا إلى يوم القيامة، أو ليلًا سرمدًا إلى يوم القيامة؟ ولذا دعانا -سبحانه وتعالى- للتأمل والنظر والتدبر في قوله -عز وجل-: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا

<<  <   >  >>