للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقد ذهب الزمخشري في آية مريم: إلى أن الاستثناء فيها يمكن أن يكون منقطعًا على الأصل، فيكون وجه التأكيد فيه هو ما ذكرناه أولًا من أن ذِكْر أداة الاستثناء تُوهِم أن ما يأتي بعدها مخالف لِمَا سبق، فإذا أتى مجانسًا له من صفات المدح كان توكيدًا على توكيد؛ لأنه صفة جاءتْك في اللحظة التي كنت تترقب نقيضها، وهذا الوجه تشترك فيه صور الإثبات وصور النفي.

ويمكن مع انقطاعه أن يقدر متصلًا، فيكون من باب التعليق بالمحال، وهو الوجه الثاني من وجوه التوكيد، وهو الذي يأتي في صور النفي فقط، وهو الذي يكون كالتعليق بمحال. وهناك وجه ثالث وهو أن يكون هذا الاستثناء من أصله متصلًا، فيكون ما بعد "إلا" داخلًا فيما قبلها، ووجهه أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلام هي دار السلامة، وأهلها من الدعاء بالسلامة أغنياء، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام، ولكن ابن النمير يرفض هذا الوجه الثالث، حيث يقول: "وفي هذا الباب بُعدٌ؛ لأنه يقتضي البتَّ بأن الجنة يُسمع فيها لغوٌ وفضولٌ، وحاشا لله، فلا لغو ولا فضولَ هناك"، ولو رُدت آية مريم إلى آية الواقعة لانتَفَى هذا الوجه الثالث الذي ذكره الزمخشري؛ لأنه في آية الواقعة عطف التأثيم على اللغو: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا} ووقوع السمع المنفي عليهما معًا في هذه الآية يجعل اتصالَ الاستثناء هنا مستحيلًا، فلا يدخل السلام في اللغو ولا التأثيم بحال من الأحوال. وإذا صح هذا الأمر هنا صح هناك في آية مريم، ويكون السلام شيئًا غير اللغو، ويبقى للتوكيد وجهان في آية مريم كما هو في آية الواقعة، وكما هو في كل صور النفي في هذا الباب.

<<  <   >  >>