للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"شم" معناه: انظر، يقول: إنه أمر السحاب أن ينظر إلى الملك الذي معه، فلما نظر السحاب أمسك عن إنزال الغيث بعدما عزَم على الانسكاب؛ حياءً من جوده. فالشاعر نقل كلمة السحاب من معناها الحقيقي وهي الغمام في السحاب إلى الممدوح، وهذا النقل مجاز قرينته ظاهرة واضحة -كما ترى. وهناك فرق أكثر وضوحًا بين التورية والمجاز: ذلك أن كل واحد من المعنيين في التورية يُفهم من اللفظ من غير وساطة الآخر، ومن غير احتياج لعلاقة بينهما، أما في المجاز فلا بد من علاقة بين المعنى المجازي والمعنى الحقيقي، قد تكون المشابهة فيكون المجاز استعارة، وقد تكون غير المشابهة فيكون المجاز مرسلًا. والمعنيان الدال عليهما اللفظ في التورية قد يكونان حقيقيين، ويكون اللفظ الدال عليهما مشتركًا بينهما مع تفاوتهما في الإدراك عند سماع اللفظ، وقد يكونان مختلفين؛ الأول حقيقة، والثاني مجاز. ففي قول الشاعر:

يا عاذلي فيه قل لي ... إذا بَدَا كيف يسلو

يمر بي كل وقت ... وكلما مر يحلو

التورية هنا في لفظ "مر" التي جاءت في آخر البيت الثاني، ومعناه القريب من المرارة التي هي ضد الحلاوة، والمعنى البعيد من المرور الذي هو السير، هما معنيان حقيقيان، فدلالته على أي منهما دلالة حقيقية وليست مجازًا. وإذا وضح هذا علمنا؛ أولًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين حقيقيين، فالتورية من باب الحقيقة ضرورةً. ثانيًا: إذا كان لفظ التورية حاملًا لمعنيين أحدهما حقيقي والثاني مجازي، وهو دائمًا -يعني المعنى المجازي في التورية- هو المعنى البعيد المورى بالمعنى القريب، إذا كان الأمر كذلك فإن التورية أدخل في باب المجاز منها في باب الحقيقة؛ ذلك لأن المقصود منها هو المعنى المجازي وإن وُرِّي بالمعنى الحقيقي.

<<  <   >  >>