للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إليه، إذ الألفاظ -كما قلنا- خدم للمعاني. ونستطيع أن نقول: إن بلاغة الجناس ترجع إلى الأمور الآتية؛ أولًا: التجاوب الموسيقي الصادر عن تماثل الكلمات تماثلًا كاملًا أو ناقصًا، تطرب له الأذن، وتهتز له أوتار القلوب، فتتجاوب في تعاطف مع أصداء أبنيتها، وهذا يؤكد بجلاء أهمية الجناس في خلق الموسيقى الداخلية في النص الأدبي، وبِناء على ما بين ألفاظه من وشائج التنغيم.

الأمر الثاني: ما يحدثه الجناس من مَيْل إلى الإصغاء؛ لِمَا فيه من مناسبة الألفاظ، وما يحدثه كذلك من قَصْدٍ إلى تشوف السامع، وتشوقه إلى معرفة أحد معنيي اللفظ؛ لأن لفظ المشترك إذا حمِل على معنًى ثم جاء والمراد به معنى آخر، كان للنفس تشوف إليه. وقد نبه الإمام عبد القاهر إلى فائدة ثالثة: هي أن في التجنيس خداعًا عن الفائدة مع إعطائه إياها، وإيهام النقص، وقد أحسن الزيادة ووفاها. وهذه الزيادة التي نبه إليها الإمام عبد القاهر لا تظهر ظهورًا قويًّا إلا في التجنيس المستوفى المتفق الصورة منه، كقول أبي تمام يمدح أبا الغريب يحيى بن عبد الله:

ما مات من كرم الزمان فإنه ... يحيا لدى يحيى بن عبد الله

وتحقيق هذه الفوائد يجعل لأسلوب الجناس مدخلًا في بلاغة الأساليب، إذ إن هذه الفوائد مما تتعلق بها مقاصد البلغاء والمتكلمين وأهدافهم، ويقصدون إليها قصدًا من وراء الأساليب المختلفة للجناس وصوره. وإذا كان لهذا اللون مدخل في بلاغة الأساليب، فإنه بذلك يُعد في صميم البلاغة وداخل في جوهرها، وليس القصد إليه قصدًا إلى الزنة والزخرفة فحسب، بل إن التزيين به مما يكسب الكلام جمالًا وبَهاءً وحسنًا دون أن يخل ذلك ببلاغته، بل إن كثرة صوره وتعدد أساليبه في القرآن، يعد دليلًا على علو شأنه ورِفعة مكانته بين ألوان الجمال الأدبي. كما أن البحث في أي أسلوب من أساليب الجناس القرآنية، مما يؤكد

<<  <   >  >>