للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وقد اعتبر "الزركشي" هذا المثال من باب تعدد النزول وتكرره١، فتكون هذه الآية قد نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واستند في ذلك إلى أن سورة "سبحان" مكية بالاتفاق.

وإني أرى أن كون السورة مكية لا ينفي أن تكون آية منها أو أكثر مدنية، وما أخرجه البخاري عن ابن مسعود يدل على أن هذه الآية: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} مدنية، فالوجه الذي اخترناه من ترجيح رواية ابن مسعود على رواية الترمذي عن ابن عباس أولى من حمل الآية على تعدد النزول وتكرره. ولو صح أن الآية مكية وقد نزلت جوابًا عن سؤال فإن تكرار السؤال نفسه بالمدينة لا يقتضي نزول الوحي بالجواب نفسه مرة أخرى, بل يقتضي أن يجيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالجواب الذي نزل عليه من قبل.

هـ- إذا تساوت الروايات في الترجيح جُمِعَ بينها إن أمكن، فتكون الآية قد نزلت بعد السببين أو الأسباب لتقارب الزمن بينها، كآيات اللِّعان: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أزْواجَهمْ} ٢, فقد أخرج البخاري والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس أنها نزلت في هلال بن أمية، قذف امرأته عند النبي -صلى الله عليه وسلم- بشريك بن سحماء، كما ذكرنا من قبل٣.

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد قال: "جاء عويمر إلى عاصم بن عدي، فقال: سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن رجل وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فيُقتل به أم كيف يصنع؟ ... " فجمع بينهما بوقوع حادثة هلال أولًا، وصادف مجيء عويمر كذلك، فنزلت في شأنهما معًا بعد حادثتيهما. قال ابن حجر: لا مانع من تعدد الأسباب.

و إن لم يمكن الجمع لتباعد الزمن فإنه يُحْمَل على تعدد النزول وتكرره، ومثاله: ما أخرجه الشيخان عن المسيب قال: "لما حضر أبا طالب الوفاة دخل


١ انظر البرهان: جـ١ ص٣٠.
٢ النور: ٦- ٩.
٣ انظر صفحة ٨٣، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

<<  <   >  >>