للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فهذا الحصر للسبعة المذكورين من البخاري بالروايات الثلاث الآنفة الذكر محمول على أن هؤلاء هم الذين جمعوا القرآن كله في صدورهم، وعرضوه على النبي -صلى الله عليه وسلم- واتصلت بنا أسانيدهم، أما غيرهم من حفظة القرآن -وهم كثر- فلم يتوافر فيهم هذه الأمور كلها، لا سيما وأن الصحابة تفرقوا في الأمصار، وحفظ بعضهم عن بعض، ويكفي دليلًا على ذلك أن الذين قُتلوا في بئر مَعونة من الصحابة كان يُقال لهم القُرَّاء، وكانوا سبعين رجلًا كما في الصحيح، قال القرطبي: "قد قُتِلَ يوم اليمامة سبعون من القرَّاء وقُتل في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ببئر معونة مثل هذا العدد" وهذا هو ما فهمه العلماء وأوَّلوا به الأحاديث الدالة على حصر الحُفَّاظ في السبعة المذكورين، قال الماوردي١ معلقًا على رواية أنس: "لم يجمع القرآن غير أربعة": "لا يلزم من قول أنس: لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك, لأن التقدير أنه لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده، وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى"٢.

والماوردي بهذا ينفى الشُّبْه التي توهم قلة عدد الحفَّاظ بأسلوب مقنع، ويبيِّن الاحتمالات الممكنة لصيغة الحصر في حديث أنس بيانًا شافيًا.

وقد ذكر أبو عبيد٣ في كتاب "القراءات" القرَّاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-


١ هو أبو الحسن علي بن حبيب الشافعي، صاحب كتاب "الأحكام السلطانية" وكتاب "أدب الدنيا والدين" توفي سنة ٤٥٠ هجرية.
٢ يرد الماوردي بالفقرة الأخيرة على الملاحدة الذين يتمسكون برواية أنس الدالة على الحصر في أن القرآن غير متواتر، ونضيف إلى رد الماوردي عليهم أنه بجانب الحفظ كانت الكتابة كما سيأتي، وانظر "الإتقان" جـ١ ص٧٢.
٣ أبو عبيد: هو القاسم بن سلام الهروي الأزدي الخزاعي، من أئمة الحديث واللغة، صاحب كتاب "الأموال" المشهور، توفي سنة ٢٢٤ هجرية.

<<  <   >  >>