ويُجاب على ذلك بأن ثبوت النسخ شيء، وثبوت نزول القرآن شيء آخر، فثبوت النسخ يكفي فيه الدليل الظني بخبر الآحاد، أما ثبوت نزول القرآن فهو الذي يُشترط فيه الدليل القطعي بالخبر المتواتر، والذي معنا ثبوت النسخ لا ثبوت القرآن فيكفي فيه أخبار الآحاد. ولو قيل إن هذه القراءة لم تثبت بالتواتر لصح ذلك.
النوع الثاني: نسخ الحكم وبقاء التلاوة، ومثاله: نسخ حكم آية العِدَّة بالحول مع بقاء تلاوتها - وهذا النوع هو الذي أُلِّفت فيه الكتب وذكر المؤلفون فيه الآيات المتعددة. والتحقيق أنها قليلة، كما بيَّن ذلك القاضي أبو بكر ابن العربي١.
وقد يقال: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟
والجواب من وجهين..
أحدهما: أن القرآن كما يُتلى ليُعرف الحكم منه، والعمل به، فإنه يُتلى كذلك لكونه كلام الله تعالى فيُثاب عليه، فتُرِكت التلاوة لهذه الحكمة.
وثانيهما: أن النسخ غالبًا يكون للتخفيف, فأُبقيت التلاوة تذكيرًا بالنعمة في رفع المشقة.
وأما حكمة النسخ قبل العمل، كالصدقة عند النجوى، فيُثاب على الإيمان به، وعلى نية طاعة الأمر.
النوع الثالث: نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، وقد ذكروا له أمثلة كثيرة، منها آية الرجم:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله، والله عزيز حكيم" ومنها ما رُوِي في الصحيحين عن أنس في قصة أصحاب بئر معونة الذين قُتِلوا وقَنَتَ الرسول يدعو على قاتليهم، قال أنس: ونزل فيهم
١ هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله المعافري، أحد فقهاء أشبيلية وعلمائها، رحل إلى الشرق، ثم عاد إلى المغرب، وتوفي سنة ٥٤٤ هجرية.