للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والعلم بها مستلزم للعلم بالمدلول، وانتقال الذهن منها إلى المدلول بيِّن واضح كانتقال الذهن من رؤية شعاع الشمس إلى العلم بطلوعها، وهذا النوع من الاستدلال بدهي يستوي في إدراكه كل العقول.

قال الزركشي١: "اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة، وما بين برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به، لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين.

أحدهما: بسبب ما قاله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} .. الآية٢.

والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام، فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزًا، فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه من أجل صورة تشتمل على أدق دقيق، لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة، وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفى على ما أدركه فهم الخطباء.

وعلى هذا حُمِل الحديث المروي: "إن لكل آية ظهرًا وبطنًا ولك حرف حدًّا ومطلعًا" لا على ما ذهب إليه الباطنية، ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر، ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل، ومرة إلى السامعين، ومرة إلى المفكرين، ومرة إلى المتذكرين، تنبيهًا أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقة منها، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ٣, وغيرها من الآيات.


١ انظر "البرهان" جـ٢ ص٢٤ وما بعدها، بتصرف.
٢ إبراهيم: ٤.
٣ الرعد: ٤.

<<  <   >  >>