وباقي علوم الشرع فترى الفقيه المفتي يسأل عَنْ آية أَوْ حديث فلا يدري وهذا عين فأين الأنفة من التقصير ومن ذلك أن المجادلة إنما وضعت ليستبين الصواب وَقَدْ كان مقصود السلف المناصحة بإظهار الحق وَقَدْ كانوا ينتقلون من دليل إِلَى دليل وإذا خفي عَلَى أحدهم شيء نبهه الآخر لأن المقصود كان إظهار الحق فصار هؤلاء إذا قاس الفقيه عَلَى أصل بعلة يظنها فَقِيلَ لَهُ مَا الدليل عَلَى أن الحكم فِي الأصل معلل بهذه العلة فَقَالَ هَذَا الذي يظهر لي فان ظهر لكم مَا هو أولى من ذلك فاذكروه فان المعترض لا يلزمني ذكر ذلك وَقَدْ صدق فِي أنه لا يلزمه ولكن فيما ابتدع من الجدل بل فِي باب النصح وإظهار الحق يلزمه ومن ذلك أن أحدهم يتبين لَهُ الصواب مَعَ خصمه
ولا يرجع ويضيق صدره كيف ظهر الحق مَعَ خصمه وربما اجتهد فِي رده مَعَ علمه أنه الحق وهذا من أقبح القبيح لأن المناظرة إنما وضعت لبيان الحق وَقَدْ قَالَ الشافعي رحمه اللَّه مَا ناظرت أحدا فأنكر الحجة إلا سقط من عيني ولا قبلها إلا هبته وما ناظرت أحدا فباليت مَعَ من كانت الحجة إن كانت معه صرت إليه ومن ذلك أن طلبهم للرياسة بالمناظرة تثير الكامن فِي النفس من حب الرياسة فَإِذَا رأى أحدهم فِي كلامه ضعفا يوجب قهر خصمه لَهُ خرج إِلَى المكابرة فَإِن رأى خصمه استطال عَلَيْهِ بلفظ أخذته حمية الكبر فقابل ذلك بالسب فصارت المجادلة مخاذلة ومن ذلك ترخصهم فِي الغيبة بحجة الحكاية عَن المناظرة فيقول أحدهم تكلمت مَعَ فلان فما قَالَ شيئا ويتكلم بما يوجب التشفي من غرض خصمه بتلك الحجة ومن ذلك أن إبليس لبس عليهم بأن الفقه وحده علم الشرع ليس ثم غيره فان ذكر لهم محدث قالوا ذاك لا يفهم شيئا وينسون أن الحديث هو الأصل فان ذكر لهم كلام يلين به القلب قالوا هَذَا كلام الوعاظ ومن ذلك إقدامهم عَلَى الفتوى وما بلغوا مرتبتها وربما أفتوا بواقعاتهم المخالفة للنصوص ولو توقفوا فِي المشكلات كان أولى.
فقد أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيل بْن أَحْمَدَ السمرقندي نا مُحَمَّد بْن هِبَة اللَّهِ الطَّبَرِيّ ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْن بْن الفضل نا عَبْدُ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن درستويه ثنا يعقوب بْن سفيان ثنا الحميدي ثنا سفيان ثنا عطاء بْن السائب عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى قَالَ أدركت مائة وعشرين من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل أحدهم عَن المسألة فيردها هَذَا إِلَى هَذَا وهذا إِلَى هَذَا حتى ترجع إِلَى الأَوَّل قَالَ يعقوب وثنا أَبُو نعيم ثنا سُفْيَانُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ سَمِعْتُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبي ليلى أيضا يَقُول أدركت فِي هَذَا المسجد عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا منهم من يحدث حديثا إلا ود أن أخاه كفاه الحديث ولا يسأل عَنْ فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.