فصل: ومن تلبيسه عليهم أنه يوهمهم أن الزهد هو القناعة بالدون من المطعم
والملبس فحسب فهم يقنعون بذلك وقلوبهم راغبة فِي الرياسة وطلب الجاه فتراهم يترصدون لزيارة الأمراء إياهم ويكرمون الأغنياء دون الفقراء ويتخاشعون عند لقاء الناس كأنهم قد خرجوا من مشاهدة وربما رد أحدهم المال لئلا يقال قد بدا لَهُ من الزهد وهم من ترغد الناس إليهم وتقبيل أيديهم فِي أوسع باب من ولايات الدنيا لأن غاية الدنيا الرياسة.
فصل: وأكثر مَا يلبس به إبليس عَلَى العباد والزهاد خفي الرياء فأما الظاهر من الرياء فلا يدخل فِي التلبيس مثل إظهار النحول وصفار الوجه وشعث الشعر ليستدل به على الزهد وك٤ذلك خفض الصوت لإظهار الخشوع وكذلك الرياء بالصلاة والصدقة ومثل هذه الظواهر لا تخفى وإنما نشير إِلَى خفي الرياء وَقَدْ قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيات" ومتى لم يرد بالعمل وجه اللَّه عز وجل لم يقبل قَالَ مالك بْن دِينَار قولوا لمن لم يكن صادقا لا تتعب.
وأعلم أن المؤمن لا يريد بعمله إلا اللَّه سبحانه وتعالى وإنما يدخل عَلَيْهِ خفي الرياء فيلبس الأمر فنجانه مِنْهُ صعبة وفي الحديث مرفوعا عَنْ يسار قَالَ لي يوسف بْن أسباط تعلموا صحة العمل من سقمه فاني تعلمته فِي اثنتين وعشرين سنة وفي الحديث مرفوعا عَنْ إبراهيم الحنظلي قَالَ سمعت بقية بْن الوليد يَقُول سمعت إبراهيم بْن أدهم يَقُول تعلمت المعرفة من راهب يقال لَهُ سمعان دخلت عَلَيْهِ فِي صومعته فقلت لَهُ يا سمعان منذ كم أنت فِي صومعتك هذه قَالَ منذ سبعين سنة قلت مَا طعمك قَالَ يا حنيفي وما دعاك إِلَى هَذَا قلت أحببت أن أعلم قَالَ فِي كل ليلة حمصة قلت فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمصة قَالَ ترى الذين بحذائك قلت نعم قَالَ إنهم يأتونني فِي كل سنة يوما واحدا فيزينون صومعتي ويطوفون حولها يعظمونني بذلك وكلما تثاقلت نفسي عَن العبادة ذكرتها تلك الساعة فأنا أحتمل جهد سنة لعز ساعة فاحتمل يا حنيفي جهد ساعة لعز الأبد فوقر فِي قلبي المعرفة فَقَالَ أزيدك قلت نعم قَالَ انزل عَن الصومعة فنزلت فأدلى إلي ركوة فيها عشرون حمصة فَقَالَ لي أدخل الدير فقد رأوا مَا أدليت إليك فلما دخلت الدير اجتمعت النصارى فقالوا يا حنيفي مَا الذي أدلى إليك الشيخ قلت من قوته قالوا وما تصنع به نحن أحق ساوم قلت عشرين دينارا فأعطوني عشرين دينارا فرجعت إِلَى الشيخ فَقَالَ أخطأت لو ساومتهم عشرين ألفا لأعطوك هَذَا عز من لا يعبده فانظر كيف تكون بعز من تعبده يا حنيفي أقبل عَلَى ربك.