الشبهة الأولى: استبعاد اطلاع بعضهم على ما خفي عن بعض فقالوا: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ والمعنى وكيف أطلع على ما خفي عنكم وجواب هذه الشبهة أنهم لو ناطقوا العقول لأجازت اختيار شخص بشخص لخصائص يعلو بها جنسه فيصلح بتلك الخصائص لتلقف الوحي إذ ليس كل أحد يصلح لذلك وقد علم الكل أن الله ﷾ ركب الأمزجة متفاوتة وأخرج إلى الوجود أدوية تقاوم ما يعرض من الفساد البدني فإذا أمد النبات والأحجار بخواص لإصلاح أبدان خلقت للفناء ههنا وللبقاء في دار الآخرة لم يبعد أن يخص شخصا من خلقه بالحكمة البالغة والدعاية إليه إصلاحا لمن يفسد في العالم بسوء الأخلاق والأفعال ومعلوم أن المخالفين لا يستنكرون أن يختص أقوام بالحكمة ليسكنوا فورات الطباع الشريرة بالموعظة فكيف ينكرون أمداد الباري سبحانه بعض الناس برسائل ومصالح ووصايا يصلح بها العالم ويطيب أخلاقهم ويقيم بها سياستهم وقد أشار ﷿ إلى ذلك في قوله ﷿: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾.
الشبهة الثانية: قالوا هلا أرسل ملكا فإن الملائكة إليه أقرب ومن الشك فيهم أبعد والآدميون يحبون الرياسة على جنسهم فيوقع هذا شكا وجواب هذا من ثلاثة أوجه أحدهما أن في قوى الملائكة قلب الجبال والصخور فلا يمكن إظهار معجزة تدل على صدقهم لأن المعجزة ما خرقت العادة وهذه العادة الملائكة وإنما المعجزات الظاهرة ما ظهرت على يد بشر ضعيف ليكون دليلا على صدقه والثاني أن الجنس إلى الجنس أميل فصح أن يرسل إليهم من جنسهم لئلا ينفروا وليعقلوا عنه ثم تخصيص ذلك الجنس بما عجز عنه دليل على صدقه والثالث أنه ليس في قوى البشر رؤية الملك وإنما الله تعالى يقوي الأنبياء بما يرزقهم من إدراك الملائكة ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً﴾ أي لينظروا إليه ويأنسوا به ويفهموا عنه ثم قال: ﴿وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ﴾ أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكوا فلا يدرون أملك هو أم آدمي.
الشبهة الثالثة: قالوا نرى ما تدعيه الأنبياء من علم الغيب والمعجزات وما يلقى إليهم من الوحي يظهر جنسه على الكهنة والسحرة فلم يبق لنا دليل نفرق به بين الصحيح والفاسد والجواب أن نقول أن الله ﵎ بين الحجج ثم بث الشبهة وكلف العقول الفرق فلا