العالم لا يكون غايته مجرد وجوده ثم عدمه بالكلية؛ لأن مثل هذه الغاية تقصر عن مثل هذا الفعل العظيم؛ فإذن للعالم غاية عظمى أعظم من مجرد وجوده، وما ذاك إلا إعادته ثم إظهار أسرار الوجود فيه.
وقد قرر هذا المعنى بوجهين: أحدهما: أن العالم ما بين مطيع يناسبه الثواب وعاص يناسبه العقاب، وهذه الدار لا تصلح لثواب المطيع ولا لعقاب العاصي؛ إذ لذاتها التي ارتبطت بها عقول الناس إنما هي دفع آلام لا لذات في الحقيقة كالأكل والشرب والنكاح إنما هي رفع ألم الجوع والعطش والشبق، وحينئذ يجب عقلا أن يكون للناس دار ينالون فيها ثواب طاعاتهم، وينالهم عقاب معاصيهم لذات وآلام حقيقية، وهي الدار الآخرة وإليه الإشارة بقوله-عز وجل-: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ الْغُرُورِ}(١٨٥)[آل عمران: ١٨٥].
الوجه الثاني: أن في الناس ظالما/ [١٤٤ أ/م] ومظلوما، والظالم يناسبه العقاب على ظلمه عقلا، ثم نرى كثيرا من الظالمين يخرج من الدنيا سالما موقرا لم تصبه قارعة ولم ترزأه رزية، فدل على أن هناك دارا يستوفى منه فيها جزاء ظلمه، وإليه الإشارة بما حكي عن ابن عباس أنه رأى جنازة، فقال: من هذا؟ قيل: فلان، لرجل ظالم لم يصب في حياته بمكروه، فقال ابن عباس: الله أكبر أشهد أن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم، من الظالم، أو كما قال.
{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ}(١١٧)[المؤمنون: ١١٧] ليس المراد أن ثم إلها آخر عليه برهان، بل المراد أن إثبات آخر لا برهان عليه، فمن ادعاه والحالة هذه فهو كافر تقليدا أو عنادا، وحسابه عند ربه-عز وجل-ثم إنه لا يفلح.