للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

{لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (٢١) [الأحزاب: ٢١] يحتج بها على التأسي به في أفعاله، ثم اختلف في فعله صلّى الله عليه وسلّم فقيل: يقتضي الوجوب/ [٣٣٥ ل]، وقيل: الندب، وقيل: الإباحة، والصحيح أن ما كان عاديا كالأكل والشرب والجماع فللإباحة، وهيئاته للندب كالأكل مستوفزا غير متكئ، والشرب في ثلاثة أنفاس، وما كان وجه القربة، فإن وقع بيانا لمجمل فحكمه حكم المبين، وإن لم يقع بيانا فإن صرح بحكمه وجوبا أو ندبا أو غيره، أو دل عليه قرينة فهو ذاك، وإلا فالإباحة متيقنة، والندب والوجوب في محل الإجمال موقوف على البيان.

احتج من قال بأن فعله للوجوب مطلقا بقوله-عز وجل-: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (٢١) [الأحزاب: ٢١] فإنه جار مجرى الوعيد على ترك التأسي به وذلك يقتضي وجوب التأسي به.

واعلم أن الاستدلال بهذه الآية على التأسي مبني على أن الآية في نفسها عامة، ثم على أن الاعتبار في العام بعموم لفظه لا بخصوص سببه؛ لأن هذه الآية إنما وردت على سبب خاص، وهو اعتزال المنافقين القتال في غزوة الأحزاب مع مباشرة النبي صلّى الله عليه وسلّم لها، فقيل لهم:

هلا تأسيتم برسول الله في لقاء العدو، فلقد كان لكم فيه أسوة، ألا تراه يقول:

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (٢١) [الأحزاب: ٢٠ - ٢١] وما قيل ذلك يدل على هذا من تقاعد المنافقين وأراجيفهم، لكن الأصلان ممنوعان، أما عموم الآية فلأن {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً} (٢١) مطلق لا عام، إذ هي نكرة في سياق إثبات، والمطلق تتأدى وظيفة العمل به في صورة ما، وقد تأسى به الناس في الإيمان والإسلام وكثير من الأحكام، فلم يبق في الآية ما يقتضي وجوب التأسي به في عموم الأفعال، وأما اعتبار عموم اللفظ دون خصوص السبب ففيه من الخلاف مع المالكية وغيرهم ما قد عرف وسبقت إليه الإشارة.

<<  <   >  >>