للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلولا أن حسن التوحيد وعبادة الله -تعالى- وحده لا شريك له وقبح الشرك ثابت في نفس الأمر معلوم بالعقل لم يخاطبهم بهذا إذ كانوا لم يفعلوا شيئاً يذمون عليه بل كان فعلهم كأكلهم وشربهم وإنما كان قبيحاً بالنهي، ومعنى قبحه: كونه منهياً عنه، لا لمعنى فيه، كما تقوله: المجبرة. وأيضاً ففي القرآن في مواضع كثيرة يبين لهم قبح ما هم عليه من الشرك وغيره بالأدلة العقلية ويضرب لهم الأمثال ... وقد قال -تعالى-: (أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ...). وقال: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ...). وقال: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ). فهذا وإن كان قال الصحابة والتابعون: إن كل عاص فهو جاهل كما قد بسط في موضع آخر فهو متناول لمن (١) يكون علم التحريم أيضاً فدل: على أنه يكون عاملاً سوءاً وإن كان لم يسمع الخطاب المبين المنهي عنه، وأن يتوب من ذلك فيغفر الله له ويرحمه، وإن كان لا يستحق العقاب إلا بعد بلوغ الخطاب وقيام الحجة.

وإذا كانت التوبة والاستغفار تكون من ترك الواجبات وتكون مما لم يكن عُلم أنه ذنب نبين كثرة ما يدخل في التوبة والاستغفار فإن كثيراً من الناس إذا ذكرت التوبة والاستغفار يستشعر قبائح قد فعلها بالعلم العام أنها قبيحة: كالفاحشة والظلم الظاهر: فأما ما قد يتخذ ديناً فلا يعلم أنه ذنب إلا من علم أنه باطل كدين المشركين وأهل الكتاب المبدل فإنه مما تجب التوبة والاستغفار منه وأهله يحسبون أنهم على هدى وكذلك البدع كلها ...

فهذا القسم الذي لا يعلم فاعلوه قبحه قسم كثير من أهل القبلة وهو في غيرهم عام وكذلك ما يترك الإنسان من واجبات لا يعلم وجوبها كثيرة جداً ثم إذا علم ما كان قد تركه من الحسنات من التوحيد والإيمان وما كان مأموراً بالتوبة منه والاستغفار مما كان سيئة والتائب يتوب مما تركه، وضيعه، وفرط فيه من حقوق الله تعالى، كما يتوب مما فعله من السيئات. وإن كان قد فعل هذا وترك هذا قبل الرسالة فبالرسالة يستحق العقاب على ترك هذا وفعل هذا. وإلا فكونه فاعلاً للسيئات المذمومة وتاركاً للحسنات التي يذم تاركها كان تائباً قبل ذلك كما تقدم، وذكرنا "القولين" قول من نفى الذم والعقاب، وقول من أثبت الذم والعقاب.


(١) هكذا في الأصل والسياق يقتضي "لمن يكون لم يعلم التحريم".

<<  <   >  >>