أُخرج، ورجع إلى عادته من الأشغال وتعليم العِلْم، ولم يزل كذلك إلى أن ظفروا له بجواب يتعلَّق بمسألة شَدِّ الرِّحال إلى قبور الأنبياء والصَّالحين، كَانَ قد أجاب به من نحو عشرين سنة؛ وكَبُرَتِ القضية، وورد مرسوم السُّلْطان في شعبان من سنة ستٍّ وعشرين بجَعْلِهِ في القَلْعة؛ فأُخليت له قاعة حسنة، وأجري إليها الماء، وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المُدَّة على العِبادة والتِّلاوة وتصنيف الكتب، والردِّ على المخالفين، وكَتَبَ على تفسير القرآن العظيم جملةً كبيرة تَشْتَمِلُ على نفائسَ جليلة، ونُكَتٍ دقيقة، ومعانٍ لطيفة، وأوضح مواضع كثيرة أشكلت على خَلْقٍ من المفسِّرين، وكَتَب في المسألة الَّتي حبس بسببها مجلَّدات عِدَّة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن مُنِعَ من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكُتُب، ولم يتركوا عنده دواةً ولا قلمًا ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحمٍ يقول: إنَّ إخراج الكتب من عنده من أعظم النِّعَم (١).
وبقي أشهرًا على ذلك، وأقبل على التِّلاوة والعِبادة والتهجُّد حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ النَّاسَ إلَّا نعيُهُ، وما علموا بمرضه، وكان قد مَرِضَ عشرين يومًا، فتأسَّف الخَلْقُ عليه، وحضر جَمْعٌ كبير، فأُذِنَ لهم في الدخول، وجلس جماعةٌ عِنْدَه قبل الغُسْل، وقرؤوا القرآن، وتبركوا برؤيته وتقبيله، ثمَّ انصرفوا، وحضر جماعةٌ من النِّساء ففعلن مثل ذلك، ثمَّ انصرفن، واقْتُصِرَ على من يغسله ويعين عليه في غُسْله، فلما فُرِغَ من ذلك أُخرج وقد اجتمع النَّاس بالقَلْعة والطريق إلى جامع دمشق، وامتلأ الجامعُ وصحنه والكلّاسة وباب البريد وباب السَّاعات إلى اللَّبَّادين والفوَّارة، وحضرتِ الجَنازةُ في السَّاعة الرابعة من النَّهار أو نحو