للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

مع خبرتي التامة به، ولكن لا يسعني في ديني ولا عقلي أن أكتم محاسنه، وأدفن فضائله، وأبرز ذنوبًا له مغفورة في سعة كرم الله تعالى وصفحه، مغمورة في بحر علمه وجوده، فاللهُ يغفر له، ويرضى عنه، ويرحمنا إذا صرنا إلى ما صار إليه.

مع أني مخالفٌ له في مسائل أصلية وفرعية، قد أبديت آنفًا أنَّ خطأه فيها مغفور، بل قد يثيبه الله تعالى فيها على حسن قصده، وبذل وسعه، والله الموعد. مع أنِّي قد أوذيت لكلامي فيه من أصحابه وأضداده؛ فحسبي الله!

وكان الشَّيخ أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمة أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، رَبْعَة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهْوَري الصوت، فصيحًا، سريع القراءة. تعتريه حِدَّة، ثمَّ يقهرها بحلم وصفح، وإليه كان المنتهى في فرط الشجاعة، والسماحة، وقوة الذكاء. ولم أرَ مثله في ابتهاله واستغاثته بالله تعالى، وكثرة توجهه. وقد تعبت بين الفريقين: فأنا عند محبه مُقصِّر، وعند عدوه مُسرف مُكثر، كلا والله!

توفي ابن تَيْميَّة إلى رحمة الله تعالى معتقلًا بقلعة دمشق، بقاعةٍ بها، بعد مرضٍ جدَّ أيامًا، في ليلة الاثنين، العشرين من ذي القَعْدة، سنة ثمان وعشرين وسبع مئة.

وصُلِّي عليه بجامع دمشق عقيب الظهر، وامتلأ الجامع بالمصلين كهيئة يوم الجمعة، حتَّى طلع الناس لتشييعه من أربعة أبواب البلد، وأقلُّ ما قيل في عدد من شهده خمسون ألفًا، وقيل أكثر من ذلك، وحُمل على الرؤوس إلى مقابر الصوفية، ودفن إلى جانب أخيه الإمام شرف الدين، رحمهما الله تعالى وإيانا والمسلمين.

<<  <   >  >>