النصوص والفِطَر، والجمعُ بين الضدَّين محالٌ. غير أن من ألطاف الله سبحانه ومواهبه العظيمة: أن الفكر ما كان يفتر عن تدبّر النصوص، وإمعان النظر في معنى الألفاظ، بحيث لا يفوت حرفٌ واحدٌ عند التلاوة من التدبّر لمعناه وطلب الهدى منه.
وكان الصدر يضيق جدًّا عن التأويل، لبعده عن الفِطر والمعروف من اللغة المتداولة بين البشر، وكان القلبُ كالموعود بقواعد صحيحة مستقيمة منقولة ومعقولة غير هذه القواعد التي وقع عليها الاصطلاح، وثِقًا بصحة دين الله، وصحة ما جاءت به الرسل عن الله، وهذا كان في الباطن كالمحقق الذي لا بدَّ من الوقوف عليه وقتًا مّا.
فلما قدّر الله تعالى ما هو شبيهٌ بالفرج بعد الشدة، من مطالعة بعض بحوث إمام الدنيا ــ رحمه الله ــ كان ذلك كضالةٍ لا تخفى على مُنشدها إذا وجدها، وعلى الخصوص إذا كانت من أعزّ ما يطلب، فوالله الذي لا إله غيره ساعةَ الوقوف على ذلك كادَ العقلُ أن يدهَش سرورًا وفرحًا. ومن يطيق أن يُعبِّر عن هذا الحال قلمٌ أو لسان؟ ! وهذا من الأمور التي لا تُعْرف إلّا بالذوق والوجدان، وإلا فلو قيل في هذا المعنى مهما قيل نُسِبَ قائله إلى التقصير أو التكثير.
ومنشد الضالة التي صاحبها خبير بها لا يحتاج واجدها إلى طول تأمل وكثرة تعب في معرفتها بعد الوجدان، فلا يُلام من أحبّ أهل بلدٍ خرج منه هذا الإمام العظيم، فضلًا عن الخصِيصِين به المُنعَّمين.
ولا ينبغي أن يُتعجَّب من إطالة هذا الكتاب وهذا الإطناب، فوالله إن هذا قليل من كثير!