فشرع حينئذ الشيخان الصالحان: عبد الله بن المحب الصالحي، والزُّرَعيّ الضرير ـ وكان الشَّيخ يحب قراءتهما ـ فابتدءا من سورة الرَّحمن حتَّى ختما القرآن. وخرج الرجال، ودخل النساء من أقارب الشَّيخ، فشاهدوه ثمَّ خرجن، واقتصروا على من يغسله، ويساعد على تغسيله، وكانوا جماعة من كبار الصالحين وأهل العلم، كالمزِّي وغيره، ولم يفرغ من غسله حتَّى امتلأت القعلة بالرجال وما حولها إلى الجامع، فصلى عليه بدركات القلعة: الزاهد القدوة محمد بن تمام. وضجَّ الناس حينئذ بالبكاء والثناء، وبالدعاء والترحم.
وأخرج الشَّيخ إلى جامع دمشق في الساعة الرابعة أو نحوها. وكان قد امتلأ الجامع وصحنه، والكلاسة، وباب البريد، وباب الساعات إلى اللبادين (١) والفوارة. وكان الجَمْع أعظم من جمع الجمعة، ووضع الشَّيخ في موضع الجنائز، مما يلي المقصورة، والجند يحفظون الجنازة من الزحام، وجلس الناس على غير صفوف، بل مرصوصين، لا يتمكن أحد من الجلوس والسجود إلَّا بكلفة. وكثر الناس كثرة لا توصف.
فلما أذن المؤذن للظهر أقيمت الصلاة على السدة، بخلاف العادة، وصلوا الظهر، ثمَّ صلوا على الشَّيخ. وكان الإمام نائب الخطابة علاء الدِّين ابن الخراط لغيبة القزويني بالديار المصرية، ثمَّ ساروا به، والناس في بكاء ودعاء، وتهليل وتأسُّف، والنساء فوق الأسطحة من هناك إلى المقبرة يدعين ويبكين أيضًا. وكان يومًا مشهودًا، لم يعهد بدمشق مثله، ولم يتخلف من